إننا كشعب -لابد لنا بصراحة أن نعترف- لا نحب أن نمجد ونطرى أنفسنا بحق وبغير حق, ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا أو يرضى إعجابنا بذاتنا الوطنية وشخصيتنا القومية، بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض بإباء أن نواجهها أو نُواجَه بها. ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها، وأيما رذيلة أو عيب فينا - إن هى وجدت على الإطلاق!- فلا محل لها من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا من العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنِعة أو المقنَّعة.
ومن طريف ما يلاحظ فى هذا الصدد اننا، حين نرجع فيما يكتب عن أنفسنا إلى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب فى العصور الوسطى أو الكُتاب الأجانب المعاصرين، ننتخب منها الإشارات الطيبة والمرضية ونحشدها حشدا ((كفضائل مصر)) مهملين ببساطة شديدة الإشارات العكسية أو المعاكسة التى أوردها الكتاب نفسه والتى قد تكون أضعاف الأولى كما وكيفا !
ليس هذا فحسب أو ليت هذا فحسب. فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل اسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها! ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض ((الشخصية الفهلوية)). ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها. بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا كلما تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا، كلما زدنا هزيمة وانكسارا كلما زدنا افتخارا بأننا شعب محارب، وكلما زدنا استسلاما وتسليما كلما زدنا تباهيا بأننا شعب سلام متحضر… الخ.
أهو نوع من الدفاع الطبيعى عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثانى ؟
أيا ما كان، فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغى وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحى إلى الكبر المرضى. ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات فى نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى نعرة حب الذات الساذجة البلهاء أو الهوجاء. إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وبكل معنى الكلمة. وهذا - سنرى، بل كما نرى حولنا بالفعل- مقتل حقيقى كامن للشخصية المصرية. فمن المحقق الذى لا يقبل جدلا أو لجاجا أن كل مركب عظمة فعلى او مفتعل إنما هو "مركب نقص مقلوب" : إنه تعويض مريض عن شعور هو أصلا مريض أكثر: شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور ، باليأس والضمور والإحباط والانحدار…الخ.
فنحن نضخم من ذاتنا الى حد السخف ونكاد نؤله مصر حين ننتصر، بينما ننهار ونكاد نسب أنفسنا عند أول هزيمة أو انكسار.
حتى عن مستقبل مصر، نحن إما متفائلون بإسراف يدعو إلى السخرية والإشفاق أو متشائمون الى حد متطرف قابض للنفس.
باختصار، مصر إما ((بخير)) دائما أو ((فى خطر)) أبدا. وكلا الحُكمين لا يرى أو يضع الحقائق فى حجمها الطبيعى السليم.
فمصر إما أم الدنيا و إما فتات التطور، إما أصل الحضارة أو مثال التخلف الحضارى… الخ. موضوع بلا موضوعية!
و الحقيقة أن ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى إنما هو وحده الذى -لصالحها- ينقدها بقوة وبقسوة إذا لزم الأمر وبلا مدارة أو مداورة. فصديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقك، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم. بل إن هذا الابن البار ليؤمن إيمانا مطلقا بأن مصر لن تتغير ولن تتطور أو تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة إلا حين يأتيها المفكر والحاكم الصادق كلاهما مع نفسه والجرىء مع جمهوره فيواجهه علنا بعيوبه بلا وجل ولا دجل.
كفانا إذن حديثا عن مزاينا ومناقبنا، فهى مؤكدة ومقررة وهى كفيلة بنفسها, ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا فى عيونها فى مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها، لا لنسىء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا.
جمال حمدان
من مقدمة موسوعة شخصية مصر