2011/06/25

الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال


د. هبة رؤوف عزت

المقدّمة: ـ

يصف المحللون اليبرالية بأنها أيدلوجية قابلة للتأويل لها مائة وجه، تجيد المراوغة والتحول وتوظف المفاهيم الإنسانية الكبرى والقيم النبيلة من أجل تحقيق منافع مباشرة اقتصادية بالأساس، حتى يحار المرء في فهمها وتحديد موقف محدد منها، ففي الفكر والنظرية تسمو قيم الحرية والفردية لكن في التطبيق تتلاشى الحريات ويسود السوق وتهيمن الرأسمالية المتوحشة. ورغم الالتباس والجرائم الكبرى تجد منظومة الليبرالية لديها من الكبرياء ما يدفعها للزعم بأنها الحل التاريخي والإجابة الأبدية لأسئلة المجتمع والدولة كما في أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، في حين لا يرى فيها نقادها إلا نسقا مثاليا تأكله آليات الاقتصاد فيستعصي جوهره كرؤية للتحرر والتحقق الفردي على التطبيق.
النشأة والتطور:

وتذهب معظم الكتابات إلى أن استخدام مصطلح "ليبرالي" بدأ منذ القرن 14، ولكنه كان يحتمل معاني متعددة ودلالات شتى، فالكلمة اللاتينية 
liber 
تشير إلى طبقة الرجال الأحرار، أي أنهم ليسوا فلاحين مملوكين أو عبيدا. والكلمة كانت ترادف "الكريم" أي "ليبرالي" أو سخي في تقديمه لمعونات المعايش للآخرين. وفي المواقف الاجتماعية كانت الكلمة تعني "متفتحا" أو ذا عقل وأفق فكري رحب. وترتبط الكلمة كثيرا بدلالات الحرية والاختيار.

ويليام جلادستون
لكن الليبرالية بمفهومها السياسي لم تظهر إلا في أوائل القرن 19، وأول استخدام كان في أسبانيا في عام 1812، وبحلول الأربعينيات من ذلك القرن كان المصطلح قد صار واسع الانتشار في أوربا؛ ليشير إلى مجموعة من الأفكار السياسية المختلفة. ولكن في إنجلترا انتشر المصطلح ببطء برغم أن الأعضاء ذوي الشعر المستعار (أعضاء حزب بريطاني مؤيد للإصلاح) أطلقوا على أنفسهم "الليبراليون" أثناء الثلاثينيات من القرن 18، وكانت أول حكومة ليبرالية هي حكومة جلادستون التي تولت الحكم عام 1868. ولم تظهر الليبرالية كمذهب سياسي قبل القرن 19، ولكنها قامت كأيدلوجية على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك بـ300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوربا والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق. كانت الليبرالية تعكس آمال الطبقات المتوسطة الصاعدة التي تتضارب مصالحها مع السلطة الملكية المطلقة والأرستقراطية من ملاك الأراضي، وكانت الأفكار الليبرالية أفكارا جذرية تسعى إلى الإصلاح الجذري وفي بعض الأوقات إلى التغيير الثوري. فالثورة الإنجليزية في القرن 17 والثورات الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن 18 كانت تحمل مقومات ليبرالية رغم أن المصطلح لم يستخدم حينذاك بالمفهوم السياسي. وقد عارض الليبراليون السلطة المطلقة للحكم الملكي والذي قام على مبدأ "الحق الإلهي للملوك"، ونادى الليبراليون بالحكم الدستوري ثم لاحقا بالحكومة التمثيلية أو البرلمانية. وانتقد الليبراليون الامتيازات السياسية والاقتصادية لدى ملاك الأراضي والنظام الإقطاعي الظالم، حيث كان الوضع الاجتماعي يحدد حسب "المولد". كما ساندوا الحركات السياسية التي تنادي بحرية الضمير في الدين وتتشككوا في السلطة المستقرة للكنيسة.
ويعتبر القرن 19 في كثير من الجوانب قرنا ليبراليا، حيث انتصرت الأفكار الليبرالية مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية. ويؤيد الليبراليون النظام الاقتصادي الصناعي واقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، حيث يسمح فيه بمباشرة الأعمال للحصول على الربح وتسود فيه التجارة الحرة بين الدول بدون قيود. فهذا النظام -نظام الرأسمالية الصناعية- نشأ في البداية في إنجلترا في منصف القرن 18، وأصبح راسخا في أوائل القرن 19، ثم انتشر في أمريكا الشمالية ثم غرب أوربا وتدريجيا طبق في أوربا الشرقية. وقد حاول النموذج الرأسمالي الصناعي أثناء القرن العشرين التغلغل في الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة أن التنمية الاجتماعية والسياسية تم تعريفها بالمنظور الاقتصادي الغربي المتمثل في نظرية التقدم المادي، ولكن العديد من البلدان النامية قاومت الليبرالية لارتباطها بالنظم الاستعمارية من جهة ولقوة الثقافة السياسية التقليدية في الدول حديثة الاستقلال التي تناصر الجماعية وليس الفردية؛ ولذلك كانت تربة خصبة لنمو الاشتراكية والقومية أكثر من الليبرالية الغربية. ولقد نجحت اليابان في تطبيق الرأسمالية، ولكنها قامت على التعاونية وليست الفردية؛ فالصناعة اليابانية تتأسس على الأفكار التقليدية من وفاء للجماعة والشعور بالواجب الأخلاقي وليس السعي لتحقيق المصلحة الذاتية للفرد وحسب. وقد اقترنت النظم السياسية الغربية بأفكار وقيم الليبرالية، وهي نظم دستورية حيث تحد الدساتير من سلطة الحكومة وتحافظ على الحريات المدنية، كما أنها تمثيلية أو برلمانية أي أن الصعود إلى المناصب السياسية يتم من خلال انتخابات تنافسية. وقد شهد التحول للديمقراطية الغربية صعودا في بعض الدول النامية في الثمانينيات، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت محاولات تحول ديمقراطي أيضا في أوربا الشرقية. ونلاحظ أنه في بعض الحالات ورثت دول أفريقية وآسيوية الأسلوب الغربي للحكم الليبرالي من حقبة ما قبل الاستقلال، ولكن بدرجات نجاح متفاوتة، فعلى سبيل المثال تُعَد الهند أكبر النظم الديمقراطية الحرة في العالم الثالث، لكن في أماكن أخرى سقطت النظم الديمقراطية الليبرالية؛ بسبب غياب الرأسمالية الصناعية كأساس اقتصادي وغلبة التحالفات العشائرية، أو بسبب طبيعة الثقافة السياسية المحلية، ففي مقابل الثقافة السياسية في معظم الدول الغربية القائمة على أساس وطيد من القيم الليبرالية الرأسمالية مثل حرية التعبير المطلقة وحرية الممارسة الدينية (أو الروحية الانتقائية العلمانية) والحق المطلق في الملكية، كمبادئ مستمدة من الليبرالية وراسخة في أعماق المجتمعات الغربية نادرا ما تواجه أي تحدي أو مسائلة، نجد في دول العالم الثالث مكانة مركزية للدين واحترام للجماعة وقيمها يحدد مجالات الحرية الفردية، ومكانة للولاء الأسري والعشائري تحفظ القيم الجماعية. ولقد ناقش بعض المفكرين السياسيين -الناقدين والمؤيدين على حد سواء- العلاقة الحتمية بين الليبرالية والرأسمالية. فيرى الماركسيون مثلا أن الأفكار الليبرالية تعكس المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة من أصحاب رأس المال في المجتمع الرأسمالي؛ فهم يصورون الليبرالية على أنها النموذج الكلاسيكي للأيديولوجية البرجوازية. وعلى الجانب الآخر يرى مفكرون مثل فريدريك حايك Hayek أن الحرية الاقتصادية -الحق في الملكية وحرية التصرف في الملك الخاص- هي ضمانة هامة للحرية السياسية؛ لذلك في رأي حايك لا يتحقق النظام السياسي الديمقراطي الحر واحترام الحريات المدنية إلا في نطاق النظام الاقتصادي الرأسمالي. ولا شك أن التطورات التاريخية في القرنين 19 و20 قد أثرت في مضمون الأيديولوجية الليبرالية، فتغيرت ملامح الليبرالية مع نجاح الهيمنة السياسية والاقتصادية لدى الطبقات المتوسطة الصاعدة، كما أن السمت الثوري لليبرالية في بواكيرها منذ القرن السادس عشر تجاه واقعها تلاشى مع كل نجاح ليبرالي، فأصبحت الليبرالية أكثر محافظة وأقل سعيا للتغير والإصلاح وتميل للحفاظ على المؤسسات القائمة الليبرالية. ومنذ أواخر القرن 19 ومع تقدم الصناعة والتصنيع بدأ الليبراليون في إعادة النظر ومراجعة الأفكار والمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية لتنشأ ليبرالية.. جديدة. فبينما كان الليبراليون الأوائل يؤمنون بتدخل الحكومة المحدود جدا في حياة المواطنين، يعتقد الليبراليون الجدد أن الحكومة مسئولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والإسكان والمعاشات والتعليم، بجانب إدارة أو على الأقل تنظيم الاقتصاد. ومن ثَم أصبح هناك خطان من التفكير الليبرالي: الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة. ولذلك رأى بعض المحللين أن الليبرالية ليست أيديولوجية متماسكة، فهي تضم تناقضات بشأن دور الدولة، ولكن يمكن القول هنا إن الليبرالية في التحليل الأخير -مثل جميع الأيديولوجيات السياسية- قد تعرضت للتطور في مبادئها الرئيسية، وذلك مع التغيرات التاريخية المحيطة، فلا يوجد أيديولوجية سياسية جامدة أو متوحدة، فكلها تحتوي على مجموعة من الآراء والاجتهادات التي قد تتعارض أو تتناقض. وبالرغم من ذلك هناك 
تماسك ووحدة ضمنية في قلب الفكر الليبرالي، وذلك في الالتزام الأساسي بحرية الفرد والمبادئ التي تترتب على مذهب الفردية.

الجوهر الليبرالي: فردانية القيم والتصورات
جون لوك
الليبرالية -بدرجة كبيرة- هي أيديلوجية الغرب الصناعي، والمفاهيم الليبرالية تبدو غير منفصلة عن الحضارة الغربية على الوجه العام. وقد تم تصوير الليبرالية مؤخرا في كتابات أنصارها بأنها ليست فقط أيديولوجية بل ما وراء - أيديولوجية Meta-Ideology، فهي مجموعة من القواعد تضع أرضية للنقاش السياسي والفكري، وذلك يبين أن الليبرالية تعطي الأولوية لما يوصف بـ"الحق الفردي" على ما هو "فاضل أو صالح"، أي أنها تسعى إلى توفير حياة "جيدة" للناس والجماعات حسب تعريفهم هم الفرداني لما هو جيد، وذلك دون أن تضع أو تفرض أي مفهوم للصلاح أو الفضيلة. وفي مواجهة الانتقاد القائل بأن الليبرالية محايدة من الناحية الأخلاقية يؤكد أنصارها أن أفكارها وقيمها لهذا السبب ذات جاذبية عالمية، فلا أحد يخاف قدوم الليبرالية؛ لأنها تتعامل مع مصالح أعضاء المجتمع بتساوٍ، ويؤكدون أن الليبرالية ليست أبدا فلسفة "افعل ما بدا لك!"، فبالرغم من أن الليبرالية تشجع الانفتاح والمناقشة وحرية الإرادة فهي تتسم كذلك باتجاه أخلاقي قوي، ويتجسد الموقف الأخلاقي لليبرالية في نظرهم في التزامها بمجموعة من القيم والمبادئ المتميزة، وأهم محاورها يدور حول ما يلي:
الفرد
الحرية
العقل
العدالة
التسامح

مركزية الفرد
ايمانويل كانط
يعتبر مفهوم الفرد في العالم الحديث مفهوما مستقرا لدرجة أن أهميته السياسية تؤخذ أحيانا كإحدى المُسَلمات، فالليبرالية طورت ما كان عليه المفهوم في الحقبة الإقطاعية، حيث ساد إدراك للفرد باعتباره ليس لديه مصالح خاصة به أو هوية متفردة، فكان ينظر إلى الناس باعتبارهم أعضاء في مجموعات اجتماعية ينتمون إليها كالأسرة والقرية والمجتمع المحلي أو الطبقة الاجتماعية، فحياتهم وهويتهم كانت تتحدد بدرجة كبيرة بحسب صفات تلك المجموعات، وذلك في عملية تغير طفيف من جيل إلى آخر، وعندما انهار النظام الإقطاعي واجه الأفراد نطاقا أوسع من الخيارات والإمكانات الاجتماعية، وأتيح لهم لأول مرة التفكير الفردي المطلق وبشكل شخصي بحت، فمثلا الفلاح المملوك الذي عاشت وعملت أسرته في نفس قطعة الأرض أصبح الآن رجلا حرا لديه القدرة على اختيار عمله وصاحب العمل، وأن يترك الأرض ليبحث عن عمل آخر في المدن الكبيرة. ومع سقوط معطيات الحياة الإقطاعية ظهر أسلوب جديد من التفكير، فالتفسير العقلاني والعلمي بدأ تدريجيا يحل مكان النظريات الدينية التقليدية وأصبح النظر والتعامل مع المجتمع من زاوية الفرد وتحرره وليس الحفاظ على تضامن الجماعات الاجتماعية. وقد انتشرت نظريات الحقوق الطبيعية في القرنين 17 و18 التي وظفت الخطاب الديني بشكل إيجابي ولم تتحدث عن قطيعة معه البتة، وذهبت إلى أن الله وهب الأفراد حقوقا طبيعية، يعرفها جون لوك بأنها "الحرية والحياة والملكية"؛ فالفرد وحده يمتلك هذه الحقوق لذلك فهو أهم من أي جماعة اجتماعية. ويعتبر أصحاب نظريات "الحقوق الطبيعية" أن وظيفة المجتمع يجب أن تكون حماية مصالح واحتياجات الفرد، وقد عبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) عن اعتقاد مشابه لذلك بشأن كرامة ومساواة الأفراد، فهي غايات في حد ذاتها وليست طرقا لتحقيق أهداف الآخرين. ويعتبر مبدأ أولوية الفرد على الجماعة الخط الرئيسي للفكر الليبرالي، حيث دفع بعض الليبراليين إلى تعريف المجتمع باعتباره "مجموعة من الأفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته". ويطلق على هذا الرأي المذهب "الذري"، حيث ينظر للأفراد كـ"ذرات متنافرة" بداخل المجتمع، ويؤدي هذا التفكير إلى أن استنتاج أن المجتمع نفسه غير موجود، بل هو "متخيل" فهو مجموعة من الأفراد المكتفين ذاتيا. وتقوم هذه الفردية المتطرفة على الافتراض بأن الفرد يتمركز حول الـ"أنا" فهو أساسا أناني ومعتمد على نفسه بدرجة كبيرة. ويصف ماكفيرسون الليبرالية الأولى بأنها "فردية مِلكية"، فالفرد هو المالك، ويمتلك نفسه وقدراته الخاصة به وهو لا يدين بها للمجتمع. وقد تطورت هذه الرؤية وصار لليبراليين فيما بعد رأي آخر أكثر تفاؤلا بشأن طبيعة الإنسان يؤمن بأن الأفراد لديهم مسئولية اجتماعية إزاء بعضهم البعض خاصة الأفراد غير القادرين على رعاية أنفسهم (كالمسنين والمستضعفين والمعوقين). وسواء اعتبرت الليبرالية الفرد أنانيا أو غير أناني؛ فقد اجتمع الليبراليون على الرغبة في خلق مجتمع يكون فيه كل فرد قادرا على تنمية وتطوير قدراته لأقصى درجة ممكنة. إن أهمية الفرد في مذهب الفردية تفوق أي جماعة اجتماعية أو كيان جماعي؛ فمن الناحية المنهجية لمذهب الليبرالية يكون الفرد مركز النظرية السياسية والتفسير الاجتماعي؛ فكل حديث عن المجتمع لا بد أن يكون من منطلق الأفراد الذين يشكلونه. وفي المقابل تقول الفردية الأخلاقية بأن المجتمع يجب أن يخدم الفرد، وبذلك يعطون أولوية للأخلاق الجماعية على حقوق واحتياجات ومصالح الفرد. هذا الموقف السابق يُعَد بمثابة موقف متميز عما ينادي به الليبراليون الكلاسيكيون واليمين الجديد من الأنانية الفردية التي ترتكز على المصالح الشخصية والاعتماد على النفس، بينما بلور الليبراليون الجدد هذا المفهوم بتأكيدهم على أهمية المسئولية الاجتماعية والإيثار جنبا إلى جنب مع مسئوليات الدولة الاجتماعية تجاه الأفراد.

الحرية
ايزيا برلين
من الطبيعي أن يؤدي الاهتمام الشديد بالفرد إلى المسئولية تجاه حريته. ويعتبر الليبراليون حرية الفرد القيمة السياسية العليا، فهي المبدأ الموحِد الجامع في الفكر الليبرالي الحر. وكانت الحرية لدى الليبراليون الأوائل حقا طبيعيا لازما للوجود الإنساني، فهي تعطي الأفراد الفرصة لتحقيق مصالحهم وممارسة حق الاختيار مثل اختيار السكن والعمل... إلخ، ورأى الليبراليون فيما بعد أن الحرية هي الشرط الوحيد الذي يمكن للأفراد من خلاله تنمية قدراتهم. وبالرغم من ذلك لا يقبل الكثير من الليبراليين بالحرية المطلقة، فإذا كانت الحرية غير محددة المعالم فهي تصبح "ترخيصا يسمح بالإساءة للآخرين. وفي كتابه "عن الحرية "، يقول جون ستيوارت ميل: "إن المبرر الوحيد لممارسة القوة بشكل صحيح تجاه أي عضو في المجتمع المتحضر والتي تكون ضد إرادته هو منع الضرر عن الآخرين". وكان "ميل" مؤيدا لمذهب التحررية، وممارسة أدنى حد من القيود على حرية الفرد. كما أنه فرق بين "الاهتمام بالمصلحة الشخصية" و"الاهتمام بالآخر" وهو ما يمثل حدا على حرية الآخرين أو إلحاق الضرر بهم، ويذهب ميل من الدفاع عن الحرية درجة رفض أي قيود على الفرد قد يتم تقنينها لمنعه من تدمير نفسه جسمانيا أو أخلاقيا، فهذا الأسلوب من التفكير يرفض القوانين التي تجبر سائقي العربات على ربط حزام الأمان أو سائقي الدرجات البخارية ارتداء الخوذة، ويساويها تماما بالرقابة التي تمنع الأفراد من القراءة أو الاستماع إلى رأي ما. بل ويدافع أصحاب الفكر التحرري المتطرف عن حق الفرد في فعل ما يشاء بما في ذلك تناول المخدرات(!) وفي حين نجد أن الليبراليين يتفقون على قيمة الحرية فإنهم يختلفون في دلالات هذه الحرية في وعي الفرد. ففي كتابه "مفهومان للحرية" فرق أيزيا برلين بين النظرية السلبية والنظرية الإيجابية للحرية. وقد كان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون أن الحرية هي قدرة الشخص على التصرف بالشكل الذي يختاره، وكان هذا المفهوم للحرية مفهوما سلبيا، حيث إنه قائم على غياب القيود الخارجية على الفرد. وفي المقابل يسعى الليبراليون الجدد إلى مفهوم أكثر إيجابية للحرية، وحسب تعريف برلين هي القدرة على أن يكون الفرد سيد نفسه ومستقل بذاته، وتتطلب السيادة على الذات أن يكون الفرد قادرا على تنمية مهاراته ومواهبه وعلى اتساع فهمه وتفهمه وعلى الوصول إلى الإنجاز والرضا. وتعني الحرية في فكر جون ستيورت ميلا أكثر من مجرد التحرر من القيود الخارجية؛ فهي قدرة الأفراد على التطور. وفي النهاية تحقيق الذات بما يتفق مع رغباتهم. وتلك المفاهيم المختلفة بل والمتعارضة للحرية أثارت الجدل الأكاديمي داخل المذهب الليبرالي فتبنى الليبراليون آراء مختلفة، بالتالي حول العلاقة المنشودة بين الفرد والدولة.
العقل
جيرمي بنثام
وترتبط الحرية في الفكر الليبرالي بالعقل؛ إذ يعتبر المذهب الليبرالي جزءا من مشروع التنوير، فالفكرة المركزية والرئيسية في رؤية التنوير هي تحرير البشرية من قيود "الخرافة والجهل" وإطلاق العنان لعصر العقل، وكان من أهم المفكرين في عصر التنوير جان جاك روسو بفرنسا وإيمانويل كانط بألمانيا وآدم سميث وجيرمي بانثام بإنجلترا. وقد أثرت عقلانية عصر التنوير في المذهب الليبرالي في كثير من الموضوعات، فهي في المقام الأول دعمت الاعتقاد في مركزية الفرد وحريته، فبقدر عقلانية الإنسان ككائن رشيد يكون قادرا على تحديد مصلحته والسعي وراء منفعته الشخصية. ولا يؤمن الليبراليون بأن الإنسان معصوم من الخطأ، ولكن الليبرالية دعمت الفرد بقوة في مواجهة "الأبوية". ورأت أنها لا تمنع الأفراد من اختيارهم الشخصي الحر وحسب، بل إنها لا تساعدهم على التعلم من الأخطاء، كما أنها تتيح لأصحاب السلطة الأبوية إساءة استخدام وضعهم لتحقيق أغراضهم الخاصة. وقد ورث الليبراليون عن العقلانية التنويرية أيضا إيمانها الشديد بفكرة "التقدم" التي تعني لديهم التوسع في المعرفة فيمكن الناس من خلال الثورة العلمية ليس فقط فهم وتفسير العالم بل تشكيله أيضا للأفضل. وبإيجاز تعطي سلطة العقل الإنسان القدرة على تحمل مسئولية الإنسان عن نفسه وحياته وتقرير مصيره، وبذلك تحرر العقلانية الفرد من قبضة "الماضي" ومن ثقل "العادات والتقاليد"، ويتقدم كل جيل عن الجيل الذي سبقه فيزداد ميراث المعرفة والفهم تصاعديا. وهو ما يفسر التأكيد الليبرالي على التعليم، فيمكن للناس تحسين أوضاعهم من خلال الحصول على المعرفة وهجر "الخرافات" و"التعصب"، فالتعليم في حد ذاته خير، فهو وسيلة حيوية للارتقاء والتنمية الذاتية للفرد. وإذا كان التعليم على واسع النطاق فهو يحقق إنجازات تاريخية واجتماعية. ولعبت العقلانية دورا هاما في التركيز على أهمية المناقشة والمناظرة والجدل. وبينما يحمل الليبراليون عموما نظرة تفاؤلية بصدد الطبيعة الإنسانية ويرون الإنسان كائنا عاقلا؛ فإنهم لم يذهبوا إلى حد وصف الإنسان بالمثالية والكمال؛ لأنهم أدركوا جيدا تأثير المصالح الشخصية وصفات الأنانية، وأن النتيجة الحتمية لذلك هي التنافس والصراع؛ لذا يتعارك الأفراد من أجل الموارد النادرة، وتتنافس الأعمال لزيادة الأرباح، وتناضل الأمم من أجل الأمن أو الحصول على ميزة إستراتيجية وهكذا. ولكن يفضل الليبراليون تسوية هذه الصراعات من خلال المناقشة والتفاوض. ومن أهم ميزات العقل أنه يعطي أساسا جيدا لتقييم المطالب والدعاوى المتنافسة إذا كانت منطقية. ويمكن القول بأن العقلانية هي الاعتقاد في أن العالم لديه تكوين منطقي يمكن كشفه من خلال الممارسة العقلية للفرد والبحث النقدي، ومن حيث النظر المعرفي فالعقلانية هي تدفق المعرفة من العقل باتجاه العالم وليس العكس، والتجربة مجرد أداة. وأبرز من كتب في العقل والمعرفة كانط؛ وهو ما يختلف عن المنحى التجريبي الذي ساد لدى الليبراليين وكان مؤسسا على فكر ديكارت. ومن حيث المبدأ العام تؤكد العقلانية على قدرة الفرد على فهم وتفسير الظواهر وعلى حل المشكلات. لكن العقلانية لا تلقن الغايات لسلوك الإنسان، بل تقترح أساليب الوصول إلى تلك الغايات دون الاعتماد على العرف أو التقليد أو اتباع الأهواء والرغبات.
العدالة
ترمز العدالة إلى نوع خاص من الحكم الأخلاقي يتعلق بالثواب والعقاب؛ فالعدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحقه. والعدالة الاجتماعية تعني توزيع المنافع المادية في المجتمع مثل الأجور والأرباح، وتوفير متساوٍ للاحتياجات الأساسية من إسكان ورعاية طبية... إلخ. وتقوم النظرية الليبرالية للعدالة على الالتزام الصارم بالمساواة بشكل شكلي. وإذا كان التعامل مع الناس في المقام الأول يقوم على اعتبارهم أفرادا، فإن لهم الحق في نفس الحقوق ونفس الاحترام. ويؤمن الليبراليون بالعالمية ، أي أن كل الناس في كل مكان لديهم معالم مشتركة أو عالمية فهم يتساوون في القيمة الأخلاقية، ويتمتع كل الأفراد والناس بحقوق متساوية بحكم إنسانيتهم، فلهم حقوق طبيعية وإنسانية. فيجب ألا تقتصر الحقوق على طبقة ما أو جنس محدد، وبالتالي يرفض الليبراليون بشدة أية امتيازات يتمتع بها جماعة دون الأخرى على أساس من النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. ويجب أن يكون الناس متساوين أمام القانون وأن يتمتعوا بحقوق سياسية ومدنية واحدة. وينادي الليبراليون بالمساواة في الفرص؛ أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي وتحسين وضعه بجهده ودأبه. وذلك لا يعني أن تكون المساواة مطلقة بتدخل من الدولة كما في الاشتراكية؛ لأن الناس لم يولدوا متساوين، بل تختلف مهاراتهم ومواهبهم وبعضهم أكثر استعدادا لبعض الأعمال من غيرهم، ولكن يجب أن تكون أوضاع المعيشة والظروف الاجتماعية الأساسية الدنيا واحدة للجميع.. فمن الضروري مكافأة من يستحق ويجتهد، فالحوافز تساعد الأفراد على العطاء وتحقيق الذات وتنمية المواهب؛ لذلك فالمساواة من المنظور الليبرالي هي أن يكون لدى كل الأفراد فرصة متساوية لتنمية قدراتهم ومهاراتهم غير المتكافئة. وتحدث الليبراليون عن حكم من يستحق (أي حكم ذوي الإمكانيات والموهبة)؛ فالمجتمع الذي يحكمه هؤلاء -وليس الحكم القائم على عوامل خارج إرادة البشر مثل الحظ أو الفرصة- يعتبر مجتمعا عادلا لأن معاملة الناس فيه ليست بحكم الجنس أو لون البشرة أو الدين، بل تكون حسب قدراتهم واستعدادهم للعمل. والمكانة والثروة الموروثة لا تتفق مع مبادئ الحكم بالاستحقاق، لكن معظم الليبراليون يقبلون فكرة الميراث؛ لأنه على الجانب الآخر منع توارث الثروة يعني التدخل في حق الفرد صاحب المال في التصرف في ملكه حسب اختياره الشخصي، وذلك يمثل إساءة لمبادئ الحرية. ويختلف المفكرون الليبراليون في كيفية تطبيق العدالة الاجتماعية؛ ففي كتابه "نظرية في العدالة" يرى جون رولز أن الناس في حاجة إلى مكافأة عن العمل الذي يقومون به؛ لذلك تكون بعض الأساليب الاقتصادية المتباينة ضرورية لتعطي حافزا للأفراد، ولكنه يرى أن يطبق ذلك فقط لمصلحة الطبقات الأكثر فقرا وأقل ميزة في المجتمع. وفي رأيه أن العدالة الاجتماعية تفهم كمرادف لمفهوم القسط وباتجاه المساواة. فالثروة في المجتمع العادل يجب أن يعاد توزيعها من خلال نظام للشئون الاجتماعية وذلك لمصلحة الأقل غنى. وعلى النقيض يأتي روبرت نوزيك في كتابه "اللاسلطوية والدولة واليوتوبيا"؛ ليكون صدى للأفكار التحررية التي تبناها جون لوك في القرن 17. ويذهب نوزيك إلى أن أي توزيع للثروة حتى لو كان غير عادل فإنه يعتبر -اجتماعيا- عدلا طالما طبقت قواعد معينة "للحفاظ على العدالة" والتي تتضمن شرط الحصول على الملك بطريقة عادلة في المقام الأول -بدون سرقة أو تعدي على حقوق الآخرين- وأن تكون قد انتقلت بشكل عادل من شخص عاقل إلى آخر عاقل أيضا. وبناء على هذا يؤكد نوزيك على أهمية ألا ينتهك حق الملكية باسم العدالة الاجتماعية، ورفض بشدة فكرة إعادة توزيع الثروة. تلك الآراء المتباينة حول العدالة الاجتماعية تكشف عن تعارض ضمني داخل الفكر الليبرالي حول أفضل الأوضاع لتحقيق المجتمع العادل. ويعتقد الليبراليون الكلاسيكيون أن استبدال النظام الإقطاعي بالسوق والمجتمع الرأسمالي يساعد على إيجاد مناخ اجتماعي يمكن أن يزدهر فيه الفرد وينمي قدراته، فكل الناس سواء في عين القانون يتمتعون بفرصة متساوية للصعود في المجتمع. وقد رأى الليبراليون الجدد أن الرأسمالية غير المقيدة أدت إلى ظهور أشكال جديدة من غياب العدالة الاجتماعية وذلك بتمييز البعض على حسب البعض الآخر؛ لذلك يفضلون تدخل الحكومة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية من أجل ضمان وحماية الفرصة المتساوية، وبالتالي تحقيق مجتمع عادل.
التسامح
فولتير
تتسم أخلاقيات الليبرالية الاجتماعي بقبول التنوع الأخلاقي والثقافي والسياسي. فقد ردد الليبراليون كثيرا المقولة الشهيرة لفولتير (1694 - 1778) "أنا أكره ما تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله!". فالحريات الأساسية التي تدعم النظم السياسية الديمقراطية -حرية التعبير والعبادة الدينية والتجمع... إلخ- كلها ضمانات لانتشار التسامح كثقافة. ويتفق معظم المعلقين السياسيين على أن الليبرالية تمضي يدا بيد مع التعددية، فيعتبر تعدد القيم والآراء والمصالح في حد ذاته قيمة وفضيلة. ونقيضه هو القمع السياسي أو انتشار الطاعة العمياء. لذلك ومن حيث المبدأ فإن الليبراليين ضد الرقابة أو أي وسيلة لمنع حرية التعبير في المجتمع، وضد أي ثوابت أيا كانت. وهذا يفسر الاستياء العميق الذي شعر به الليبراليون في الغرب من الفتوى التي أدلى بها الإمام آية الله خوميني عام 1989 بإعدام الكاتب الإنجليزي سلمان رشدي عندما نشر كتابه "آيات شيطانية" والذي رأى فيه المسلمون إهانة لعقيدتهم الدينية. ويعني التسامح التقبل، أي الاستعداد لترك الناس يفكرون ويتكلمون ويتصرفون بأسلوب قد لا يتفق المرء معه. ويعتبر التسامح لدى الليبراليين خلقا مثاليا ومبدأ اجتماعيا. ومن جانب آخر تمثل هذه القيمة هدف الاستقلال الفردي، وتضع قاعدة تحكم سلوك الأفراد مع بعضهم البعض. وتعتبر كتابات جون ميلتون وجون لوك في القرن الـ17 حول الدفاع عن الحرية الدينية للمذاهب المختلفة أولى إرهاصات دعم الليبراليين لقيمة التسامح تجاه الآراء المخالفة. وفي كتابه "رسالة حول التسامح" رأى لوك أنه ما دمنا قبلنا أن وظيفة الحكومة هي حماية أسلوب الحياة والحرية والملكية؛ فالحكومة ليس لها الحق في التدخل في رعاية أرواح العباد؛ فذلك يلقي الضوء على تمييز الليبراليين الواضح بين ما هو "خاص" وما هو "عام". فيجب أن يمتد التسامح ليشمل الأمور الخاصة التي رأوا أنها تشمل الدين ومسائل الأخلاق التي يجب أن تترك للفرد. وبالرغم من ذلك لم يكن مفهوم البعض -ومنهم لوك على سبيل المثال- للتسامح مطلقا؛ فهو لم يكن على استعداد لتطبيق التسامح على الكاثوليك الرومان، وكانوا في نظره خطرا على الهيمنة القومية بسبب مبايعتهم للبابا الذي هو أجنبي، كما يؤيد الليبراليون المعاصرون القوانين التي تمنع وتصادر الآراء المؤيدة للعنصرية مثلا، والقوانين ضد تشكيل الأحزاب السياسية المعادية للديمقراطية، ويرون أن انتشار تلك الآراء أو نجاح تلك الأحزاب يهدد مناخ التسامح الليبرالي. وعمليا نجد أنه في حين يساند الليبراليون حق المسلمين في نقد مضمون كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية"، فقد كانوا يؤيدون مقاضاة من يدافع علنا عن إعدام سلمان رشدي. ويتعلق مفهوم التسامح وقبول الاختلاف والتنوع -في رأي الليبراليين- بقواعد المجتمع السوي غير الممزق بالنزاعات والصراعات. وبرغم أن الأفراد والجماعات الاجتماعية تسعى إلى تحقيق مصالح مختلفة، إلا أن هناك توازنا كامنا بين المصالح المتنافسة كما ذهب آدم سميث في حديثه عن "اليد الخفية"؛ فمثلا تختلف مصالح العمال وأصحاب الأعمال: فالعمال يريدون أجورا أفضل وساعات أقل وتحسين ظروف العمل - وأصحاب العمل يرغبون في زيادة أرباحهم عن طريق المحافظة على تكلفة الإنتاج المنخفضة والتي تشمل الأجور، ولكن يحتاج العمال إلى العمل وأصحاب العمل يحتاجون للعمالة، فتلك المصالح المتنافسة تكمل بعضها البعض، أو بمعنى آخر تعتبر كل مجموعة هامة لتحقيق أهداف المجموعة الأخرى. وقد يسعى الأفراد والجماعات وراء مصالحهم الذاتية، ولكن الموازنة الطبيعية تفرض نفسها. وقد أثر مبدأ الموازنة في تطور الأفكار الليبرالية من عدة جهات؛ فجعل بعض الليبراليين يوقنون بأن التوازن الطبيعي سيظهر في الحياة الاقتصادية، ويؤمنون بتوازن المصالح بين الجماعات المتنافسة في النظام السياسي، ويدافعون عن تصور أن السلام والانسجام ممكن بين شعوب العالم. وهذا التركيز على التنوع والتسامح تعرض للكثير من النقد؛ فتصوير أنصار الليبرالية لها بأنها محايدة أخلاقيا ولا تفرض أي قيم أو عقائد معينة، بل فقط تخلق الظروف التي يمكن أن يعيش فيها أناس ذوو الأولويات الأخلاقية والمادية المختلفة في سلام ونجاح يجعلها تتجنب القيم المطلقة غير القابلة للتفاوض وغير قادرة على مواجهة واقع النزاع؛ فيكون القيد الوحيد على التنوع هو أن يكون كل طرف مؤهلا لتقبل آراء وتصرفات الآخرين، وهكذا يكون التسامح هو القيمة الجوهرية الوحيدة لدى الليبراليين. ويتمثل خطر هذا الوضع في أنه يؤدي إلى مجتمع خالٍ من الأخلاق وغير قادر على كبح جماح الجشع والأنانية. لذلك عاب المحافظون على الليبرالية أنها تقوم بدعم نسبية الأخلاق والثقافة، وفي نظرهم يؤدي غياب القيم الأساسية التي يقوم عليها بنيان المجتمع لجعل التفاعل المنظم والمتحضر مستحيلا لغياب الإجماع الأساسي اللازم لأي مجتمع. والنتيجة هي أن الناس يعلمون جيدا حقوقهم، ولكن لا يعترفون بأي واجب أو مسئولية. وفي العقود الأخيرة من القرن 20 تعرضت الليبرالية الفردية إلى نقد من قبل حركة المجتمعية السريعة الانتشار.
الليبرالية بين الكلاسيكية والحداثة

ديفيد ريكاردو
أثار ظهور ما يسمى بالليبرالية الجديدة الاهتمام يإعادة قراءة الليبرالية الكلاسيكية؛ فالحق أن تلك الليبرالية الجديدة هي عودة سلفية لمبادئ الليبرالية قبل أن تتفاعل مع الحقبة الاشتراكية فتهذبها وتتبنى بعض السياسات والأفكار التي تحترم المساواة وحقوق الرفاهة للمواطن خارج منافسة السوق. فالليبرالية الكلاسيكية هي الليبرالية الأولى التي ظهرت في الفترة الانتقالية بين الإقطاعية والرأسمالية، وقد وصلت إلى أوجهها في بداية الفترة الصناعية من القرن 19؛ ولذلك في بعض الأحيان يطلق على الليبرالية الكلاسيكية "ليبرالية القرن التاسع عشر"، وكانت المملكة المتحدة مهد الليبرالية الكلاسيكية؛ حيث تقدمت وتطورت الثورات الرأسمالية والصناعية. لذلك تأصلت الأفكار الليبرالية بعمق في الدول الأنجلوساكسونية مثل المملكة المتحدة وأمريكا أكثر من باقي دول العالم. وقد أخذت الليبرالية الكلاسيكية أشكالا كثيرة، ولكن تعتبر الحرية السلبية هي الصفة المشتركة بين تلك النماذج المختلفة؛ فالفرد حر إذا ترك في حاله بدون تدخل الآخرين بأي صورة؛ فمعنى الحرية هنا هو غياب القيود الخارجية على الفرد. فهذا التصور للحرية يفرق بشكل ملحوظ بين الدولة والفرد؛ فالدولة كيان ظالم لديه السلطة لعقاب المواطنين ومصادرة أملاكهم بدفع الغرامات وسلب حرياتهم بالسجن، وفي بعض الأحيان تقضي على حياتهم بالإعدام. فبالتالي قيام الدولة حتى ولو كان ذلك عن طريق العقد الاجتماعي يقتضي حتميا التضحية بحرية الفرد الذي سيفقد المقدرة على عمل ما يريده. ولاقت تلك المبادئ الأولى انتعاشا وإقبالا شديدا في النصف الثاني من القرن 20. وكان تأثيرها ملحوظا مرة أخرى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث توجد صحوة معاصرة لليبرالية الكلاسيكية تحت اسم الليبرالية الكلاسيكية الجديدة أو الليبرالية الجديدة التي ظهرت كرد فعل للتدخل المتزايد للحكومة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في الفترة ما بعد الحرب والتي تجلت في اليمين الجديد. وتأثرت الليبرالية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر بنظريات كبرى حول الطبيعة الإنسانية قام بوضعها أصحاب الفكر النفعي أمثال جيرمي بنثام وجيمس ميل. اعتبر بنثام فكرة الحقوق "هراء"، وسمى الحقوق الطبيعة "هراء على ركائز" واستبدلها بما يؤمن بأنه أكثر عملية وموضوعية؛ ألا أن الفرد يتحرك بدافع مصالحه الذاتية التي تعرف بالرغبة في اللذة والسعادة وتجنب الألم. فيرى بنثام وكذلك ميل أن الناس يحسبون قدر اللذة والألم الصادر من كل فعل وموقف؛ فبالتالي يختارون ما يبشر بأكبر قدر من اللذة والسعادة. ويؤمن المفكرون النفعيون أن السعادة والألم يمكن قياسهم بالمنفعة آخذين في الاعتبار الكثافة والمدة وهكذا، فالإنسان في رأيهم يتحرى أكبر قدر ممكن من النفع بالسعي وراء أكبر قدر من اللذة والسعادة وأقل قدر ممكن من الألم. ومن الناحية الأخلاقية يمكن النظر إلى المنفعة لمعرفة "صحة" اتجاه السياسات والمؤسسات في توفيرها للسعادة، تماما كالفرد في قدرته على حساب أكبر قدر من السعادة الصادرة من الفعل؛ حيث يمكن الاستعانة بمبدأ "أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد" في السياسات لصالح المجتمع ككل. وفي أوائل القرن 19 في بريطانيا اجتمع حول بنثام مجموعة من المفكرين المتشددين فلسفيا وعرضوا عليه مجموعة وكبيرة من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والقانونية، وكلها ترتكز على فكرة المنفعة العامة. فقد كان للنفعية أثر بالغ في الليبرالية وخاصة أنها تطرح فلسفة أخلاقية تفسر كيف ولماذا يسلك الفرد على النحو الذي هو عليه. كذلك تبنت الأجيال اللاحقة من الليبراليين التصور النفعي للإنسان على أنه مخلوق عقلاني يسعى وراء مصالحه الشخصية، وهي فكرة محورية وراء فكر الييبرالية الجديدة أيضا. فيستطيع كل فرد في نظرهم تحديد أفضل مصالحه الخاصة دون غيره؛ فلا يمكن لغيره -الدولة مثلا- أن تفعل ذلك له. وحسب بنثام الناس تتحرك في إطار اللذة أو السعادة التي يتمتعون بها وبالطريقة التي يختارونها؛ فلا لأحد سواهم يمكن أن يحكم على نوع أو درجة سعادتهم. فإذا كان كل فرد هو الحكم الوحيد لما سيسعده؛ فالفرد وحده هو القادر على تحديد ما هو صحيح أخلاقيا. والنظرية الاقتصادية الكلاسيكية تبلورت بالأساس في أعمال اقتصاديين سياسيين أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو (1770 - 1823). ويعتبر كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث أول كتاب يدرس في علم الاقتصاد؛ فقد اقتبس سميث أفكاره عن الطبيعة الإنسانية بشكل ملحوظ من الافتراضات الليبرالية والعقلانية، وكان له إسهامه المؤثر في الجدل حول الدور المرغوب فيه للحكومة بداخل المجتمع المدني. ومثل جوانب أخرى من الليبرالية الأولى كان أول ظهور علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في بريطانيا، حيث كان التحمس الشديد لأفكار ومبادئ هذا العلم التي تبنتها أيضا الولايات المتحدة. كتب آدم سميث كتابه في وقت فرضت فيه الحكومة قيودا صارمة على النشاط الاقتصادي؛ فكانت المركنتلية النظام الاقتصادي المسيطر في القرنين 16 و17 حيث تدخلت الحكومات في الحياة الاقتصادية من أجل تشجيع التصدير والحد من الاستيراد. وجاء سميث ليقول بأن الاقتصاد يكون في أوج نشاطه مع عدم تدخل الحكومة. ففي رأيه الاقتصاد هو السوق أو سلسلة من الأسواق المتعلقة بعضها ببعض. وتعمل السوق حسب رغبات وقرارات الأفراد الأحرار، وإن الحرية في السوق هي حرية الاختيار: مقدرة المنتج على اختيار السلعة التي يصنعها، ومقدرة العمال على اختيار أصحاب الأعمال، ومقدرة المستهلك على اختيار السلع والخدمات للشراء. فالعلاقات في هذه السوق بين صاحب العمل والموظفين، وبين البائعين والمستهلكين علاقات تطوعية أو عقدية. ويفترض الاقتصاديون الكلاسيكيون أن الأفراد يسعون وراء تحقيق مصالحهم الشخصية ماديا بدافع الرغبة في التمتع باللذة أو السعادة، وذلك عن طريق تكوين واستهلاك الثروة. وتقوم النظرية الاقتصادية لحد كبير على فكرة "الرجل الاقتصادي"، وهي أن الإنسان يسعى إلى أكبر قدر من المنفعة وذلك بالكسب المادي. وبالرغم من أن الفرد موجه نحو مصالحه الشخصية يعمل الاقتصاد ككل تحت ضغوط غير بشرية ألا وهي قوى السوق التي تتفاعل بذاتها نحو الرخاء والرفاهية الاقتصادية. على سبيل المثال لا يمكن لأي منتج لسلعة أن يحدد ثمنها؛ فالسوق هي التي تحدد الثمن حسب عدد السلع المعروضة للبيع وعدد المستهلكين الراغبين في شرائها؛ فتلك هي قوى العرض والطلب. إن السوق تدير نفسها بنفسها من خلال آلية التنظيم الذاتي؛ فهي لا تحتاج إلى التوجيه الخارجي. ومن ثَم يجب ألا تتدخل الحكومة في السوق؛ لأنها تدار -على حد قول آدم سميث- "بيد خفية". وتعكس فكرة الإدارة الذاتية للسوق المبدأ الليبرالي بأن هناك توافقا طبيعيا بين المصالح المتضاربة في المجتمع. ويعمل أصحاب الأعمال والعمال والمستهلكون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية، ولكن قوى السوق تضمن توافق تلك المصالح؛ فمثلا يحقق العمل التجاري ربحا إلا من خلال ما يرغب المستهلك شراءه. وقد استخدم الاقتصاديون في المراحل اللاحقة فكرة "اليد الخفية" لشرح كيف أن المشكلات الاقتصادية -مثل البطالة والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات- يمكن القضاء عليها من خلال آليات السوق؛ فمثلا تأتي البطالة نتيجة زيادة عدد المؤهلين للعمل عن الوظائف المتاحة أي عرض العمال يزيد عن الطلب لها. فتخفض قوى السوق من سعر العمالة أي أجورهم ، فمع انخفاض الأجور يمكن لصاحب العمل تعيين عدد أكبر من العمال وبالتالي تقل البطالة. لذلك تكون قوى السوق قادرة على القضاء على البطالة بدون تدخل الحكومة شريطة أن مستوى الأجور يكون مرنا مثل الأسعار الأخرى. وتؤدي السوق الحرة إلى كفاية اقتصادية، فمن أجل الربح لا بد أن تكون التكلفة منخفضة فالإسراف وعدم الكفاءة لا سبيل لهم في العمل الإنتاجي. في نفس الوقت تمنع المنافسة إمكانية الحصول على أرباح مبالغ فيها. إذا كانت الأرباح عالية بشكل غير عادي في مجال معين فذلك سيشجع المنتجين على دخول ذلك المجال، فبالتالي سيزيد الناتج وينخفض مستوى الأسعار والأرباح. وتنجذب الموارد الاقتصادية نحو أكثر الاستخدامات ربحا أي نحو مجال الإنتاج المتنامي والمزدهر وليس غير ذلك. وتعمل السوق بشكل إيجابي؛ لأنها دائما تسعى لتحقيق رغبات المستهلك، فالمستهلك هو المسيطر على زمام الأمور، ولكي تحافظ المؤسسات على ربحها العالي لا بد أن تعرف جيدا وتوفي حاجات ورغبات المستهلك. وبذلك وبشكل طبيعي تتحرك قوى السوق نحو رفع كفاءة وقوة الاقتصاد الذي يستجيب ذاتيا لأي تغيير في طلب المستهلك. وأصبحت أفكار السوق الحرة اعتقادا اقتصاديا في المملكة المتحدة وأمريكا أثناء القرن 19. ووصلت مبادئ السوق الحرة ذروتها مع مبدأ laissez faire، أي "دعه يعمل" وذلك يعني أن الحكومة يجب ألا يكون لها دورا اقتصاديا وترك الاقتصاد وحده والسماح لأصحاب الأعمال مباشرة أعمالهم كيفما يروق لهم. ويتضارب هذا المبدأ مع قوانين المصنع مثل منع توظيف الأطفال والحد من ساعات العمل وأي لائحة من لوائح أوضاع العمل. وتقوم تلك الفردية الاقتصادية على فكرة السعي غير المقيد وراء الربح والذي في النهاية يؤدي إلى المنفعة العامة. واستمر مبدأ "دعه يعمل" قويا في المملكة المتحدة على مدى القرن 19 وكذلك في الولايات المتحدة حتى عام 1930، حيث لاقى معارضة حادة. وفي أواخر القرن 20، تم أحياء فكرة السوق الحرة أثناء إدارة ريجن في الولايات المتحدة وحكومات تاتشير وماجور في المملكة المتحدة. فمن المتوقع أن تقوم الدولتان بزيادة كفاءة الاقتصاد وإنمائه ورفع "يد الحكومة الميتة" عنه، والسماح للقوة الطبيعية لآلية السوق أن تثبت نفسها مرة أخرى. ومن المظاهر الأخرى لليبرالية الاقتصادية هي التجارة الحرة.