العلاقات القبطية الإسلامية في مصر علاقات عمرها يجاوز أربعة عشر قرناً من الزمان, استطاع المصريون خلالها أن يحافظوا دائماً على حقيقتين : الإيمان المتعدد مسيحيّا وإسلاميّا, والعيش الواحد مصريّا. وهزمة هذه الوحدة جميع محاولات التفريق بين الفريقين دينيّا, اللذين يكونان فريقاً واحداً متماسكاً كالبنيان المرصوص وطنيةً وولاءً.
ولا يملُّ المصريون من استدعاء مقولة القس سرجيوس حين أراد البعض تسويغ التدخل الأجنبي بحجة حماية الأقباط من مخاطر عيشهم مع المسلمين, وهم أكثرية غالبة, فقال سرجيوس : “يريدون التدخل لحماية الأقباط , فليمت الأقباط ولتحيا مصر” وكانت النتيجة, أن بقى الأقباط وبقى المسلمون وبقيت مصر أيضاً.
فالتخدل الأجنبي في شئون مصر مرفوض من الفريقين جميعاً, أو على الأقل من كثرتهم الغالبة الوطنية العاقلة؛ لأنهم يعلمون حقاً أن الأجنبي لا يريد خيرًا لأحد, ولا يريد خيرا بهذا الوطن أصلا. وكان المصريون الأقباط والمسلمون, وهكذا يتحدث هاني لبيب في كتابه, “يفخرون بتوافر مقومات العيش المشترك” ومع وجاهة هذه المقولة, وصحة ما تنبني عليه من مقدمات فإنني منذ عدة سنوات أنادي بأن يكون السعي والعمل القبطي الإسلامي – وفي العالم العربي كله لنقل : المسيحي الإسلامي متجها نحو تحقيق العيش الواحد. والفارق بين الهدفين ليس شكليّا ولا لفظيّا. فأما العيش المشترك حياة بين طرفين متباينين فيما تكون به مقومات هذه الحياة, والحقوق الواجبات فيها, والنتائج التي تحققها لكل منهما. وأما العيش الواحد فهو حياة المواطنين المتساوين في أصل المواطنة, وفيما يترتب عليها من حقوق وواجبات, وفيما يكون نصيبا لكل مواطن من عزم وغنم, ولا يفرق بينهم في هذه الحياة أن إحدهما مسيحي والثاني مسلم, وإنما يجمعهما شرف الانتماء إلى وطن بنوه معا, ويحمونه بدمائهم وأموالهم معا, ويدفعون كل كيد يراد به بوقوفهم صفا واحداً. وفكرة العيش المشترك بما ترسخه من وجود “صنفين” أو “فريقين”, فكرة تتيح دائماً للآخرين مساعي إيقاع الفرقة بينهما, والعمل على تشتيت جهودهما, والنفخ في نار الفتنة التي لا تعدم أبدا حمقى يقبلون على إشعال المزيد منها وتوسيع نطاقها والولولة والصراخ بعد ذلك أنهم من ضحاياها.
أما فكرة “العيش الواحد” فإنها تصد عن هذه السيل أصلا, وتغلق الأبواب في وجه الذين يريدونها عوجا, تعوق مسيرة المصريين ومحاولتهم تعويض مسافة ما فاتهم بسبب الاستعمار والقهر المتواليين من الأخذ بأسباب تطوير الإرادة وتحديث الدولة والإسهام في حركة العالم نحو توظيف المعرفة ومكتسباتها والعلم وإنجازاته لصالح الإنسان, لا لصالح الحكام وحدهم ولا لصالح أدوات القمع السياسي والقهر الفكري التي لا يعاني منها أحد, من الشعوب الصانعة للحضارات, كما يعاني منها المصريون منذ عشرات السينين.
وهاني لبيب يقدم في كتابه نماذج مشرقة وصوراً حية للعيش الواحد, وإن سماه العيش المشترك. ولا يتقدم هاني لبيب بكتابه هذا على النحو الذي يراه قارؤه في أرض تتلقاه بالورود والرياحين, ولكنه يمشي به في أرض مخافة, مليئة بالمصاعب والعقبات. وهو لن يلقى هذه المصاعب والعقبات من بعض متعصبة المسلمين وحدهم, لكنه سيجدها أيضا وبقدر أكبر من متعصبة الأقباط وحمقاهم. ففي الفريقين متعصبون وحمقى, وفي الفريقين, جهلة يقودهم أصحاب الأهواء والمصالح. ولكن واجب العقلاء من الفريقين وهاني لبيب من شبابهم الواعد, أن يقفوا في وجه موجات التعصب مهما بدت عنيفة, وآثار الحمق مهما كانت مخيفة, وأن يقدموا المثل من أنفسهم على تحمل المشقة في سبيل وحدة الوطن ووحدة أبنائه, وإلا أصبحنا أو أمسينا غرباء في بلدنا, أو أصبحنا مشردين لا وطن لنا.
وليس لمصر حصانة ذاتية, ولا مناعة داخلية تحول بينها وبين المصير الذي هوت إليه أو الذي ينتظر أن تهوي إليه بلدان أخرى في الشرق والغرب, وفي الشرق الأوسط بوجه خاص. وحصانتها الوحيدة هي عمل العقلاء من أبنائها الذين يرون مخاطر الفرقة, فيحولون بينها وبين أن يحقق العاملون لها أهدافهم.
وفي خصوص العلاقات القبطية / الإسلامية في مصر ينتظر أن يؤدي واجب مهم على الصعيدين الحكومي والشعبي, فلا ريب أن هناك عقبات في وجه تحقيق الوجود الحر للمجتمعات الشعبية القبطية, ولا يقل عنه – بل هو قطعاً يزيد عليه – ما تلقاه محاولات التجمع الشعبي – الفكري أو السياسي – الإسلامية. والحكومة هنا مدعوة للعمل في هذا الميدان بروح العصر, وإلى الإصلاح الذاتي الذي يستجيب لمطالب الناس ويحول بينهم وبين أن يضعوا فرائس سهلة لطلاب المجد وطلاب الشهرة من ضحايا التعصب الأعمى أو عملاء العدو الأجنبي.
وعلى الصعيد الشعبي ينتظر المصريون من القيادات الدينية, المسيحية والإسلامية, أن يكون صوتها العاقل الصادق أعلى من كل صوت يفتقر إلى معنى الصدق والعقل. وينتظر المصريون من الدعاة في مساجدهم والكهنة في كنائسهم أن يبِّصروا مريديهم بحقيقة العلاقة الأزلية بين المصريين على اختلاف أديانهم, بعد أن تجاوز السياسيون الصادقون مقولة “عنصري الأمة” ومقولة “العيش المشترك” إلى مقولة “العيش الواحد”.
ونحن في هذا الجهد لا نريد من قبطي أن يترك دينه, ولا من مسلم أن يتنازل قيد شعرة فما فوقها عن مقتضيات عقيدته أو شريعته أو السلوك الواجب عليه بهما, ولكننا نريد أن يدرك الجميع أنه لا بقاء لأحدهما دون الآخر, وأن النار التي يشعلها أحدهما ستصيبه قبل أن تحرق الآخرين.
من مقدمة الدكتور محمد سليم العوا لكتاب هاني لبيب المعنون بـ “أزمة الحماية الدينية : الدين والدولة في مصر”
الطبعة الأولى 1421هـ / 2000م