2011/05/04

عن جمال الدين الأفغاني - بقلم : محمد جلال كشك


لماذا الأفغاني ؟

عندما قامت  الثورة الايرانيه، وكنا أول من رحب بها ، وبشر بالآمال  التي فجرتها ، كنا نجلس مع عدد من نخبة المثقفين العرب ..ودار حديث سني وشيعي ، والاحتمالات الممكنة لهذا النصر “الشيعي”كما كان البعض يسميه أو النصر الإسلامي كما كان الجميع يجتمعون يتمنون ..وطرحت أنا علي المجتمعين سؤالا بدا غريبا ، وهو .. هل كان جمال الدين الأفغاني سنيا أم من الشيعة؟!


وفشلنا جميعا  في الإجابة علي السؤال .. لأنه بمنطقنا المعاصر يستحيل افتراض أنه كان شيعيا ثم ينال هذه المكانة العالية بين المثقفين في تركيا ومصر وأفغانستان حيث الأغلبية الساحقة أو حتى الجميع من السنة .. كيف لم يقل له  أحد .. ما دخلك بنا يا شيعي ؟..كيف لم تستخدم السلطات السنية التي كان يحاربها  ويدعو للقضاء عليها ..كيف لم تستخدم مذهبه الشيعي ،في التحريض عليه ، واتهامه بأنه رافضي نصيري ..إلي آخر ما تعودنا نحن استخدامه ضد المخالفين لنا في الرأي أو المصالح ؟!




وإن كان سنيا فيكف استطاع أن يقود حربا ضد شاه إيران في معقل الشيعة ،وبعد ما يزيد علي القرن لا نجد سنيا واحدا بارزا في قيادة الثورة الإيرانية،ولا في حركة أمل ؟!ولا أظن أو أدعي أن الوضع أفضل في تشكيلات المسلمين السنة..

وهل يعقل أن يستطيع الرجل التغرير بالمسلمين من كابول ودلهي إلي اسطمبول ، فيدعي بين أهل السنة ،ويطالب بخلافة آل البيت إذا ما انتقل للعمل بين الشيعة؟
!
مستحيل ..وإزاء الحقيقة الواضحة ، وهي نجاح الأفغاني في كسب الجماهير :السنة والشيعة ،وتزعم المثقفين ،وفي مقدمتهم العلماء في بلاد الشيعة والسنة معا.. ليس أمامنا إلا افتراضان : التفرقة بين سني وشيعي ، ظاهرة حديثة لم تكن في عصر الأفغاني ،ولا عاني هو منها ولا جماهير عصره ،وأن الإحساس بالتميز ، حتى لا نقول النفور أو العداء ، هو ظاهرة حديثة ، نشأت علي الأرجح خلال سنوات الاحتلال والسيطرة الغربية ،التي كان من الطبيعي ان تبحث  عن كل ما يفرق الجماهير ،لتسهل السيطرة عليها .. فالجماهير لم  تكن طائفية ، إلا بعد أن جاء الاستعمار ، وربط الطائفة ، بالمصالح ، وأعاد إحياء الخلافات.

أما قبل ذلك فإن المثقفين والعلماء المسلمين ،لم ينظروا للخلاف الشيعي والسني إلا كخلاف أكاديمي تاريخي ، لا يتعدى حلقات الفقه والدراسات التفصيلية . وعبر التاريخ لم يكن هذا الخلاف بارزا وحادا إلا في دوائر السلطة ، وفي الصراع حول هذه السلطة .. وفي حالة مصر فإن عددا من المثقفين ولا نقول الجماهير ، لم ينتبهوا لحقيقة أنهم  من السنة إلا بعد الثورة الإيرانية والحديث عن الشيعة!
ولكن الإشادة بموقف  الجماهير في عصر الأفغاني  ليس منصفا ، ولا يقرر كل الحقيقة ، فلا بد أن الرجل قد استطاع أن  يسمو بصيغة ما فوق هذه التسميات ، بل إنه أول آخر زعيم إسلامي استطاع  أن يستثير ، أن ينظم ، أن يستعين بعناصر غير  إسلامية . فكان معه مسيحيون يل ويهودي مصري شهير .. ولا أظن أننا ننصف الرجل لو قلنا إنه كان متسامحا أو غير متعصب .. بل كان أكبر من ذلك.
ولو كنا ممن يجنحون للمبالغة لقلنا إنه من أولياء الله الصالحين ، بدليل أن الله قد سلط علية الدكتور إياه” بتاع الجنرال يعقوب ومطلق الأنثى ” ( يقصد لويس عوض ) فقد كان هجوم هذا الدكتور علي الأفغاني ومحاولته إثارة الشك حول دوافع السيد جمال الدين الأفغاني ، سببا لا في مجرد وقف الحملة الإسلامية علي الأفغاني  ، بل في غضبة شاملة انبري في ظلها عدد من المثقفين علي اختلاف ميولهم للدفاع عن الأفغاني والتحمس له ، وقبل حملة الدكتور كانت هناك محاولات من إسلاميين ” منبتين ” للنيل من الرجل وترديد نفس ما قاله الدكتور إياه .. ولو سكت هذا الدكتور لربما كان الضرر أفدح ، والنيل  من سمعة ونزاهة بل وإخلاص الأفغاني أسهل وأكثر قبولا . ولكن كرامة الرجل ، أو قل عدالة التاريخ ،وقوة الحق ، سخرت هذا المشكوك في عروبته المقطوع بعداوته للإسلام ليهاجمه،فغضب له مائة ألف مثقف لا يسألون السبب!..







وقد يبدو غريبا أن يتفق فريق من المنبتين لاشك في إخلاصهم مع هذا  الطائفي  الشعوبي في مهاجمة الأفغاني ، وفي هذا الوقت بالذات ، الذي تفتك فيه الطائفية بالأمة العربية ، بل توشك نارها أن تمتد فتنال بشرها الأمة الإسلامية ..

ومن ثم فلا غرابة في أن نتطلع نحن لهذا الذي استطاع منذ أكثر من مائة سنة  أن يجعل العالم الإسلامي ميدان عمله السياسي ، فيقود الإيراني والأفغاني والهندي المسلم والمجوسي والتركي ، ويوحد العربي والمسلم والمسيحي ، بل اليهودي العربي – قبل ظهور إسرائيل بالطبع ،وقبل سيطرة الفكر الصهيوني ،بل حتي قبل ظهور الصهيونية السياسية –

ما هي معجزة الرجل ..التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضي ، بل التي تبدو أنها الحل الوحيد لأزمتنا، عفوا ، بل للكارثة التي تهدد بإبادتنا كأمة و زوالنا كحضارة ..؟!


الإجابة عن كل هذه الأسئلة , يتضمنها تحليل الفكر الذي طرحه الرجل ، لا باستعراض أعماله الكاملة ، بل أقصد الصيغة  التي طرح بها الأفغاني الإسلام ، والتي ضلت عنها كل الحركات الإسلامية والتحررية التي جاءت من بعده ، فالرجل وإن يكن قد نال مكانة عظيمة بين معاصريه ، واحتل مركزا خالدا في التاريخ ، فإن تلاميذه لم يفهموا  جوهر الصيغة التي طرحها عن الإسلام المطلوب لتحرير هذه الأمم التي عناه مصيرها ، وتفرغ لحياتها .

لقد كان جمال الدين الأفغاني أول من طرح صيغة الإسلام الحضاري .. الإسلام السياسي، الإسلام الجغرافي ، وربما كان هذا الفهم موجودا بصيغة غامضة في تفكير وأدبيات الحزب الوطني وبالذات فيما بعد مصطفي كامل ، وأيضا في عدد من رجال  الثورة الجزائرية ..  ثم اندثر تماما أو قل وئدت الفكرة والصيغة علي يد القوميين العرب ، سواء الذين رفعوا راية العروبة لمحاربة الإسلام في أواخر الدولة العثمانية والي فتنة لبنان أو ” المخلصون ” الذين أرادوا حركة قومية علي الطراز الأوروبي ، أو بالأحري ما فهموه  من هذا الطراز .. وأيضا  انهارت الصيغة علي يد الحركات الإسلامية  من باكستان إلي العالم العربي ، الذين طرحوا الصيغة الدينية ، وتصوروا أنفسهم دعاة جددا ” للدين ” الإسلامي .. ومن هنا كان التقاء الجانب الأكثر تطرفا من الحركة الإسلامية ، مع أعداء الإسلام والعروبة في رفض الأفغاني والحملة عليه ..
فما هي صيغة الأفغاني  أو ما هي صيغة الإسلام الحضاري التي نعتقد أننا بحاجة إليها، ونعتقد أنها تكفل حل مشاكلنا..؟
كان الأفغاني يؤمن بالمواجهة الحضارية بين الشرق والغرب ،  تلك المواجهة التي بدأت بحرب الإغريق  ضد الفرس ، وانتهت هذه الجولة بانتصار الإغريق ثم الرومان ، وخضوع الشرق للغرب إلى أن جاءت أول وآخر موجة شرقية منتصرة وهي العرب المسلمون ثم الترك ، وما تخلل ذلك من كر وفر ، وامتداد وانحسار .. ليعود الغرب في هجمته التي بدأت بسقوط الأندلس ، وتحول مجرى التاريخ ، الذي مازال مستمرا لمصلحة الغرب إلى يومنا هذا .. ولا حاجة أو قل لا مكان للتفصيلات ..
المهم أنه خلال هذه المواجهة ، تحددت ملامح الشرق في الحضارة الإسلامية ، ليس فقط لأن المسلمين أصبحوا يمثلون أكبر نسبة متجانسة بين شعوب الشرق المواجهة لأوروبا ( لم تكن الصين ولا اليابان جزءا من هذا الشرق حضاريا ولا حتى في قرون المواجهة من عصر الإغريق إلى القرن التاسع عشر ) .. ولا لأن الدول الإسلامية أصبحت هي الثغور والطلائع والمتصدية باسم الشرق الآسيوي الإفريقي .. بل أيضا لأن الحضارة الإسلامية كانت القاسم المشترك والمميز بين شعوب هذه الدول ، بل تكاد تكون حضارتهم الوحيدة ، ولأن الإسلام عبر عن مقاومة هذه الشعوب المنتصرة أو المتراجعة ضد الهيمنة الغربية ، هو وحده الذي حقق الانتصار الوحيد للشرق على الغرب .
 ولأن الإسلام بفلسفته القائمة على قبول التعدد ، وحماية هذا التعدد قد حمى الجماعات والأديان والطوائف والعناصر والقوميات التي في الشرق ، والتي كانت تواجه خطر الإبادة في ظل ” الهيمنة ” الغربية ، التي ترفض هذا التعدد وترفض هذه المخالفة ، حتى اصبح هذا التعدد خاصية تميز الحضارة الشرقية ، حيث ولد مبدأ التعايش ، وتمت ممارسته وازدهارها كما لم يحدث في أي حضارة أخرى . فالحضارة الإسلامية أبقت على تعدد القوميات ، ففيها الفرس والهنود والأتراك والبربر والزنج … إلخ كما أبقت الكنائس والأديان ، بل ليس جديدا القول بأن كل كنائس الشرق ما كانت لتبقى إلى اليوم وتنجو من الإبادة والذوبان لولا انتصار الحضارة الإسلامية ، وقد مللنا ومل الناس إعادة تكرار هذه الحقيقة ، وهي أن جميع كنائس الوطن العربي كانت في حالة ثورة ، مطاردة ، هاربة أو معتصمة بالجبال والصحراوات عشية الفتح العربي – الإسلامي .. وفي بلد مثل الهند ، لم يشهد تاريخها تعايشا بين طوائفها التي يصعب حصرها ، إلا في ظل الحكم الإسلامي .. وهاهي في ظل الديمقراطية تزاحم لبنان في المذابح والخلافات الطائفية ، وإصرار الهندوس على فرض سيادة عنصرهم ، وتشبث غيرهم بالتميز والمخالفة والانفصال ..
ومن هنا أصبحت هذه القوميات وهذه الطوائف منتمية تاريخيا وفكريا وحضاريا ومصلحيا للحضارة الإسلامية الشرقية ، وأصبح يستحيل التمييز بين هذه الطوائف والأديان والمذاهب والقوميات في المواجهة الحضارية مع الغرب الاستعماري ، فهي ليست مسألة دينية ، وإن كان الدين قد أصبح روح المقاومة والصيغة الظاهرة ، سواء أكان الدين الإسلامي أو شتى الكنائس المرفوضة من حضارة وكنائس الغرب الأوروبي والأمريكي ، الذي تبشر كنائسه بين المسيحيين العرب قبل المسلمين ، بل وبإصرار أكثر ونجاح أكبر من نجاحها في أوساط المسلمين ..
هذا التصور للانتماء الحضاري والقيادات الوطنية والدينية تحسه وتمارسه دون تنظير ، وهذا ما حكم موقفها من الفتح العربي إذ رحبت به ، وجعلت سقوط الامبراطورية الفارسية سهلا إلى حد مذهل ، أما الأكثر ذهولا لمن يرفض تفسيرنا للمواجهة الحضارية فهو السرعة التي تم بها اندماج فارس في الحضارة الإسلامية ، بل وحمل الفرس مشعل هذه الحضارة ، وتصديهم لنشرها شرقا ، والتعبير عن تفوقها العلمي والفني والأدبي .. ذلك أن القومية الفارسية التي حملت عبء الدفاع عن الشرق ، وفشلت – وجدت في الإسلام التعبير الحقيقي عن روحها وحضارتها ، وكيانها ، فاندمجت فيه وأوغلت برفق وأحيانا بعنف ..
وكما كان انهزام الوجود البيزنطي في بلاد شاسعة المساحة ضخمة الإمكانات ، سهلا ومثيرا ، بسبب عواطف السكان غير المسلمين وقتها ، وإحساسهم بأن الفتح العربي هو التحرير .. بينما صمدت القسطنطينية وهي مجرد مدينة خلفها امتدادات بربرية بلا حضارة ، صمدت ما يقرب من ثمانية قرون لأنها لم تكن عربية ولا من الشرق ولا اعتبرها المشارقة من جغرافيتهم أو ترابهم أو حضارتهم . بل عندما دخلها العثمانيون أخيرا سماهم العرب ” الروم ” .. فقد اصبحوا في نظرهم امتدادا للروم الذين ارتبطت المدينة بهم ..!
كذلك تجلى هذا الحس في موقف القوى غير الإسلامية من الحروب الصليبية ، التي جاءت باسم المسيحية وضد الإسلام والمسلمين ، وتحت شعار تخليص بيت المقدس من الكفار وتحرير قبر المسيح .. إلخ .. وكلها شعارات تبدو متلاقية مع فكر الكنائس العربية ، ولكنها لم تصادف أي استجابة يعول عليها لدى غالبية المسيحيين .. وإذا كان البعض يصر على اتهام فئات بالاستجابة للإغراء الذي طرحه القادمون من أوروبا لإبادة المسلمين ، فإن هذه الفئات قد أصبحت من يومها تشعر بالغربة وسط المحيط العربي أو الشرقي ، وتحاول بكل جهد إثبات انتمائها للحضارة الأخرى عبر البحر الأبيض ..
ازدهرت وتألقت كل الأقليات ، وساهمت في البناء الحضاري للإسلام ، على نحو لم يسبق له مثيل ولم يتكرر إلا في القرنين الأخيرين في أمريكا بالذات التي هي تجمع أقليات .. وكان الانتماء واضحا حتى في الأسماء العربية التي امتدت من الفلبين إلى جنوب فرنسا بين شعوب ليس في لغتها حتى الحروف العربية كلها ، ورغم ذلك حرص التركي والعجمي والزنجي على نسبة أولاده ” هسن ” أو ” أوثمان ” وأصبح اليهودي اسمه ” ميمون ” وأبو لافيه ” وتفقه في علوم اللغة وحسبك ” سيبويه ” مؤسس علم النحو ووعظ البطاركة بالعربية وترجموا إليها الأناجيل ، ( في أسبانيا الكاثوليكية رفضت الكنيسة المنتصرة في القرن الخامس عشر ترجمة الإنجيل إلى العربية لأنها ” لغة نجاسة ” … ) ولكن قساوسة الشرق تفقهوا في أصول الدين الإسلامي وحملوا الأسماء العربية ، ويكفي تأمل تطور الأسماء خلال مائة سنة الأخيرة بين الأجداد أو حتى الآباء والأبناء ، وكيف أصبح مايكل ابن أبو جودة ، وولد الإمام ” مالك ” ابنا اسمه شارل .. 

وكذلك الحلو بيك ولد شارل وحبيقة ولد إيللي .. ولا عجب فانتصار الحضارة العربية جعل أهم قديسة في إسبانيا المسيحية اسمها ” فاطمة ” أو ” سانت فاتيما ” بينما حفيد الشيخ القيسوني أصبح ” ليدو ” وداود صار ديفيد وميخائيل أصبح ميشيل ثم ما يكل ..
وهذا كله من مظاهر الإحساس بالانتماء الحضاري ، ولكن في الاتجاه المضاد ، وهو ما جعل بعض القوى تدرس للطلبة في مدارسها أن ريتشارد قلب السد هو البطل التاريخي وليس صلاح الدين في نفس الوقت الذي كان قادة العروبة المعادية للإسلام يسمون أولادهم ” لهبا ” حتى يصبح اسم الأب ( أبو لهب ) إحياء لذكرى أبي لهب ، وهم الذين قالوا : أبو جهل وأبو لهب أقرب إلينا من سلمان الفارسي وهم جميعا يعبرون عن رفض الانتماء الحضاري ، رفض الواقع والتاريخ مهما تعللوا فلو انتصر ريتشارد قلب الأسد ولو انتصر أبو لهب على سلمان الفارسي لما كنا عربا ولا كنا أفضل من سكان مالطا أو أنغولا أو الفلبينيين في أفضل تقدير .. فمن ينتمي للشرق ، للعروبة لابد أن يشعر بالامتنان للذين أورثوه هذه الهوية .. سلمان وصلاح الدين وأباء الكنائس الشرقية التي فتحت قلبها للشقيق المسلم الذي جاء بالتحرير من حكم بيزنطة ودافع عنها ومعها ضد غزو أوروبا في القرون الوسطى وفي العصر الحديث ..
قلنا إن السيد جمال الدين الأفغاني كان أول مفكر إسلامي في العصر الحديث وعى طبيعة المواجهة الحضارية بين الشرق والغرب ، فاعتبر الشرق كله بلا تمييز ميدان عمله ، وحدد رسالته بإيقاظ وتوعية شعوب هذا الشرق لتحريرها أو لتصعيد مقاومتها ضد الزحف الاستعماري الأوروبي .. لم يفرق في ذلك بين العربي أو الفارسي أو الهندي ، ولا فرق بين المسلم والمسيحي ، أو عابد البقر في الهند ، فكلهم في الهم شرق ، وكلهم في زورق واحد ضد الاستعمار الغربي .. وما كان لقائد في مثل شموخ فكرته ونضج نظرته العالمية أن يفرق بين شيعي وسني … إلخ ..
وقد نجح الأفغاني في التوصل إلى هذه الصيغة المتفوقة لأنه لم يحاول إنشاء حركة دينية ، أو إن شئت لقد توصل من هذا الوعي بالمجابهة الحضارية إلى خطأ البدء أو الانحصار في حركة دينية فالأفغاني وحده يمكن وصفه بأنه اهتم وجاهد في كل القضايا الإسلامية التي عاصرها وترك بصماته على حركة البعث الإسلامي إلى يومنت هذا ، ومع ذلك فلا ادعى الإمامة ولا سماه أحد بالإمام ، ولم ينظر المعاصرون ولا التابعون للأفغاني كزعيم ديني أو فقهي وليس له فتوى واحدة مشهورة ، وإن كان أحد تلاميذه ( يقصد الشيخ محمد عبده ) قد تخصص في الإفتاء وأصبح هو المقصود لو قيل ” المفتي ” أو ” الإمام ” بدون تعريف .. ولا يعرف له رأي في قضية الإمامة ولا بيعة السقيفة ، بل يروى أنه رفض إغراء محاولة إدخال اليابانيين في الإسلام معتقدا أن مهمة المسلمين التي تستغرق جهدهم هي حماية ما بقي وتحرير ما سقط ، فاليابان كانت تبحث عن حل حضاري وليس عن حل منطقي أو شرعي ، ولم تكن حضارة المسلمين المهزومين تغري أمة صاعدة بعكس ما يحاوله المفلسون اليوم لنشر الإسلام في الهنود الحمر المنقرضين .
الأفغاني لم يطرح الصيغة الدينية لتحرير الشرق ، وإن كان قد رأى و روج أن هذا التحرير فريضة دينية على المسلم ووطنية على جماعات الشرق غير المسلمة ، بل مسألة كرامة ، وتأمل قوله للهنود : لو كنتم مائة مليون ذبابة لأزعجتم الإنجليز بطنينكم أو لو كنتم مائة مليون سلحفاة لسبحتم إلى الجزر البريطانية وأغرقتموها في البحر ، فهو لم يحصر جهده في المسلمين الهنود ، ولا حاول فرزهم .. ثم انظر إلى رأيه في الثورة السودانية ، فهو بالطبع لم يصدق ادعاء زعيم الثورة أنه المهدي المتظر ، ولكنه رد في العروة الوثقى على سؤال قارئ حول مهدية ” محمد أحمد ” برأي يثير فزع الحركات الدينية اليوم ، ويعطي مادة للراغبين في التشكيك في إيمانه ، إذ قال : حتى لو ثبت كذب الرجل وبطلان ادعائه المهدية فيجب تأييده ، وهذا على أساس أن الطاقة الإيمانية التي يفجرها الاعتقاد بمهديته ولو خطأ تضيف إلى كفة الحركة الوطنية في صدامها مع الاستعمار ما يرجحأو حتى ينفي الحاجة إلى الجدال حول صدق الادعاء من كذبه .
وهل كانت ” جان دارك ” فعلا تكلمها الملائكة ؟؟ .. ولماذا انحازت السماء إلى الفرنسيين ضد الإنجليز وكلهم من دين واحد ؟ ولكن قناعة الفلاحين الفرنسيين بأن جان دارك هي المهدي المنتظر أعطتهم نفس القوة التي فجرها الإمام بالمهدي في السودانيين ، فالوطني الفرنسي هو الذي روج خرافة جان دارك ..
الأفغاني كان في حرب شاملة ضد الأجنبي العدو ، يحاول تجميع كل طاقات الشرق للمقاومة ، فهو مع خرافة المهدي في السودان ، مع آيات الله في إيران من أجل استصدار فتوى شرعية بتحريم الدخان ، ولو حتى على أساس أنه من بول إبليس كما كان المتدينون الطيبون يقولون بعد الأفغاني بنصف قرن ، مع الحركة الدستورية على الطراز البرلماني الأوروبي في مصر ، مع نموذج بطرس الأكبر ومحمد علي في تركيا .. وهذه الحركة السياسية التي أرادها الأفغاني تنطلق بالطبع من خلفية إسلامية ، وتعتمد على الوعي والإيمان الإسلاميين فى انطلاقها ونموها وانتصاراتها ، وهي بدورها كان يفترض أن تؤدي إلى حركة بعث إسلامي ، وقد أدت فعلا ، ولكن في إطار محدود ، وصيغة خاصة ، إلا أنه لا يمكن لمؤرخ أن يغفل تأثير حركة الأفغاني على المفاهيم والممارسات والتطورات للحركة الإسلامية من الجزائر إلى باكستان .. وإن صح وصف هذا التطور بأنه نهضة أو بعث ، فالفضل الأكبر فيه يرجع للأفغاني ..
وقد انقسم تلاميذ الأفغاني من بعده ، ومضوا في دروب عديدة ، وأستطيع القول إن الحركة الوطنية في الجزائر هي وحدها التي فهمت وتبنت الإسلام الحضاري ، فلم تكن الثورة الجزائرية بقيادة حركة دينية ، وإن تكن أنقى وأنجح ثورة إسلامية أو أكبر نصر إسلامي منذ فتح القسطنطينية أو سقوط الأندلس .. وبعض قادتها تفقهوا في الدين بعدما نجحت الثورة وخلعوا من الحكم . ولا أنسى صدق وطهارة المرحوم ” قايد أحمد ” عندما كنت أحدثه عن آمال المسلمين في مساهمة قيادة الثورة الجزائرية في تقديم طرح جديد للفكر الإسلامي .. فرد صارخا : ” أنا ؟ أنا قرأت القرآن بالفرنسية ” !
كذلك يمكن القول أن الثورة الإيرانية حركة سياسية ، فلم يقدها حزب ديني وإن اعتمدت على الجماهير المسلمة ، وعلى نمو الإحساس بالمواجهة الحضارية وسياسة تحدي الإسلام التي سار عليها الشاه ، وإن سلمت الحكم لرجال الدين باعتبارهم القيادة الوحيدة الموثوق بـ ” إسلامها ” من الجماهير .. ولكنها لم تكن حركة دينية .. بينما كانت باكستان ولا تزال هي صيغة طرحتها حركات دينية ، عزلت المسلمين الهنود ، واعتبرت أن لهم مصيرا يختلف عن مصير الهند ، وأن هدفهم هو إقامة الدولة الإسلامية ، ونفس الشئ عن الحركة الإسلامية في المشرق العربي ، فقد بدأت حركة ” دينية ” وتحت اسم خاص هو ” الإخوان المسلمون ” .. بينما لا نجد مثل هذا الاسم في الثورة الإيرانية أو الجزائرية أو الأحزاب التي حققت الاستقلال في المغرب .. رغم وجود إسلاميين بارزين في القيادة ..
هذه الحركات ” الدينية ” فرزت المسلمين وحدهم ، فأصبحت قضيتها قضية المسلمين ، ثم فرزت ” المؤمنين ” من بين المسلمين واستبعدت من لا يؤمن لا أقول ببرنامجها ، فكلها لم يكن لها ولا تزال بدون برنامج معاصر ، اكتفاء بتمتعها بسيد البرامج الصالح لكل زمان ومكان .. وهذه مغالطة بالطبع ، لأن من علائم الصلاحية ودلائل الدوام هو القدرة على استنباط البرنامج في كل زمان وباختلاف المكان ..
المهم أن هذه الحركات استبعدت المخالفين لمسلكيتها ، فمن لا يطلق لحيته أو يصلي السنة أو لا يقصر ثوبه .. هو مسلم ناقص الإسلام ، ويفبذل الجهد والوقت في إقناعه بهذه الممارسات ، وهذه الحركة تروع بالطبع عندما تعرف أن الأفغاني كان له تلميذ لا يصلي بانتظام أو حتى يتسامح في بعض الأمور .. ويستدلون  بذلك على أن الأفغاني كان دجالا ! .. لأنه لا يمكن أن يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله .. وأوله بدأ بالمؤمنين العاكفين الركع السجود .. وهذا صحيح .. ولن نقول إن ألفا وخمسمائة سنة ومساحة قارتين تفصلان بين أول هذا الأمر وآخره .. وإن ما بدأ بالإيمان الديني ، قد نما وتطور وتشعب فأسبح يضم المسلم والمنتمي لغير دين الإسلام ، بل واللا منتمي لأي دين .. وأنه لابد من برنامج ينبع من الإسلام ، وينفذه أساسا المسلمون المؤمنون الصادقون ، ولكنه برنامج يسع كل هؤلاء .. وما من حركة تعتمد على الدين في منطلقها وسلوكها وإيمان أتباعها مثل الحركة الصهيونية ، ولكنها حركة سياسية بكل معنى الكلمة ، لم تبدأ على يد حاخامات ، ولا سيطر عليها الحاخامات ، بل إن سيطرة الكهنوت اليهودي ثلاثة آلاف سنة لم تنجح في تحقيق ما حققته الحركة اليهودية السياسية ، المعروفة باسم الصهيونية في أقل من مائة سنة ..
فهي حركة يهودية
واسمها يهودي
وبرنامجها يهودي
وفلسفتها ومبرراتها وشعاراتها مستمدة من الدين اليهودي ، وهي تعتمد بالدرجة الأولى على ” الإيمان اليهودي ” ولكنها حركة سياسية ناجحة لأنها استطاعت أن تطرح ذلك كله في الصيغة الحضارية التي جندت تحت أعلامها اليهودي الملحد واليهودي المؤمن ..
ولكن يبدو أننا لا نريد أن نتعلم من إسرائيل إلا كراهية الفلسطيني والحرص على إبادته ..!
ولو استطاع الأفغاني أن يشكل المؤتمر الشرقي أو حتى الإسلامي ، من خلال الصيغة السياسية التي طرحها ، ولو وعى تلاميذه هذه الصيغة ، أو قل لو أخلصوا لها ، لربما تغير تاريخ الشرق ، ولوجد تلاميذ المؤتمر الصهيوني أندادا لهم .. ولكن ” هيرتزل ” ورثه غولدمان وبن جوريون ومناحم بيجن وكلهم التزموا بالصيغة الصهيونية .. اليهودية الحضارية .. اليهودية السياسية ..
أما الأفغاني المسكين .. والعظيم ، فإن بعض تلاميذه فهموا الصيغة السياسية على أنها التخلي عن الإسلام ، كما فعل سعد زغلول ، وسائر العلمانيين .. ولكن هؤلاء لم يصل ضررهم إلى ما سببه محمد عبده وداعيته رشيد رضا .. لأن ” الشيخ الإمام المفتي ” .. لأسباب معروفة طلق السياسة ويسوس وساس .. إلى آخر القصة المعروفة ، ولم يكن أمامه إلا التشبث بالجانب الديني في شكل بحوث فقهية ومناقشات وحوار مع غير المسلمين .. الدفاع عن ” الإسلام ” بدلا من الدفاع عن ” المسلمين ” .. الجهاد في الرد على ” المتكلمين ” ضد الإسلام ، عوضا عن الجهاد ضد الغازين المستعمرين لبلاد المسلمين .. وهذا هو الفكر الذي بقي من الأفغاني وكان من الطبيع أن يستمر التقلص والتحوصل ، وتظهر الطائفية ، والشكلية ، والمظهرية .. إلخ .
وبعكس الطابع العالمي لنشاط الأفغاني واهتماماته ، نرى هذه الحركات الإسلامية عجزت حتى عن تشكيل حركة على المستوى العربي ، بل تعددت بتعدد الأقطار وحملت الكثير من بصمات المناخ السياسي والطائفي في هذه الأقطار .. وهي إذا كانت لم تتخذ الشكل الطائفي ، فإنها لم تنجح في إلغائه ، بل سقطت في أول جولة لها مع الطائفيين .. وصحيح أن نشاط الأقليات الطائفية قد انتهى بإضعاف قدرة مجموع الأمة على المواجهة الحضارية ، بل أيضا أفضى إلى خسائر فادحة للطائفية ذاتها ن سواء بعزلتها عن الأغلبية ، وحركة التاريخ ، واتهامها بالخيانة والسلبية أو لأن العدو بعدما حقق غرضه من إثارتها وتحريضها ، لا يبالي بمصيرها ، بل يحاول التودد للأغلبية بالتنصل من طموحات هذه الأقلية وما تكون قد ارتكبته من أخطاء في حق مواطنيها .. في ظل غواية العدو وحمايته .
ومع ذلك فلا يمكن تحميل كل اللوم لهذه الأقليات ، ما دامت الأغلبية جعلت الإسلام قضيتها الخاصة ، وسدت المنافذ أمام مشاركة هذه الأقليات في تقرير مصير الوطن وتحرير الأمة .. أو أعطتها مكان ” المرتزقة ، كما يفعل المودودي رحمة الله عليه !
وقد حدث في أعقاب هزيمة 1967 مااصطلح على تسميته ” بالصحوة الإسلامية ” وكان الظن أن انتصارها سيكون في الجانب العربي من الوطن الإسلامي ، بعدما انهارت النظريات القومية المعادية للدين أو التي تتخذ منه موقفا سلبيا ، وعلى ضوء الانتصار ” اليهودي ” وبدا أن الصحوة تأخذ الصيغة الأفغانية ، أي الإسلام السياسي ، من خلال عناصر لم تكن يوما في صفوف الحركات الدينية ، ولا يمكن إدراجها في قائمة رجال الدين .. وهنا هبت القوى التقليدية ، تهاجم الأفغاني ، وتهاجم الإسلام السياسي ، وتشكك في إيمانه مستدلة بالمسلكيات الدينية ، ولحق بها العلمانيون المشبوهون يشككون في إخلاصه السياسي ..
والهدف المتفق عليه بدون اتفاق ولا سابق تلاق .. هو منع تبني صيغة الإسلام الحضاري ، الصيغة التي يقبل بها المواطنون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأصولهم العرقية ، يقبلون الإسلام كهوية حضارية تجمعهم جميعا وتميزهم جميعا في نفس الوقت .
فهو التاريخ وهو الثقافة وهو بطاقة الهوية وهو الخيار الحضاري الوحيد .. ولكنها ليست صيغة دينية فقهية .. لأنها كما قلنا تتسع لغير المسلمين وإن كانت تعتمد على الإيمان الإسلامي ، وستؤدي إلى تحرير وعزة الإسلام ..
( من كتاب : ودخلت الخيل الأزهر/ محمد جلال كشك /ط3/1990/ الزهراء للإعلام العربي /497-508)