د.هبة رؤوف عزت
الدارونية الاجتماعية
فرانكلين روزفلت
مما تتميز به الليبرالية الكلاسيكية (والجديدة) مواقفها من الفقر والمساواة الاجتماعية. ينظر الفكر السياسي الفردي إلى الأوضاع الاجتماعية من حيث المواهب وجدية عمل كل فرد على حدة، فيعمل الأفراد ما يريدونه وفي حدود قدراتهم بحياتهم الخاصة. وتعتبر السوق الحرة في سماحها لكل الناس أن يحققوا مصالحهم الخاصة ضمانا للعدالة الاجتماعية، فمن كان لديه القدرة والاستعداد للعمل سوف ينجح (من جد وجد). ويبدأ كتاب صمويل سميلز كما يبين عنوانه "الاعتماد على النفس (1859)" بالمقولة "السماء تساعد من يساعدون أنفسهم"؛ فقد تبنى المؤيدون لـ"دعه يعمل" تلك الأفكار عن المسئولية الفردية. على سبيل المثال نادى ريتشارد كوبدن (1804 - 1865) -وهو عالم اقتصادي وسياسي إنجليزي- بتحسين أوضاع الطبقات العاملة، ولكن يتم تحقيق ذلك من خلال جهودهم الذاتية والاعتماد على النفس وليس من خلال القانون ونصحهم ألا يركزوا على البرلمان ولكن أن يركزوا على أنفسهم. وتبلورت مبادئ اعتماد الفرد على نفسه في كتاب "الإنسان مقابل الدولة (1884)" الذي كتبه ألبرت سبنسر (1820 – 1904، فليسوف وعالم اجتماع إنجليزي). وقد دافع سبنسر بشدة عن مبدأ "دعه يعمل" مستندا إلى حجج استخدامها فيما بعد العالم البريطاني تشارلز دارون (1809 - 1882) في كتابه "في أصل الأنواع (1859)". وضع دارون نظرية التطور التي تفسر التنوع في المخلوقات على الأرض؛ فهو يرى أن كل نوع من المخلوقات يمر بسلسلة من التغيرات العشوائية الجسدية والعقلية. وبعض هذه التغيرات ساعدت على بقاء ونجاح النوع، ولكن غيرها استحال لها البقاء. خلقت المخلوقات على الأرض في نطاق واسع، ولكن كثيرا منها انقرضت؛ فإنها عملية "الانتخاب الطبيعي" التي تحدد النوع الصالح للبقاء ومن هو غير ذلك. وبالرغم من أن آراء دارون كانت تقتصر على العالم الطبيعي فإنها استخدمت في صياغة نظريات اجتماعية وسياسية. ويعتقد سبنسر مثلا أن عملية الانتخاب الطبيعي تسري أيضا على المجتمع الإنساني الذي يتسم بمبدأ "البقاء للأصلح"، فصور المجتمع على أنه ساحة لنزاع الأفراد للبقاء، فمن كان أكثر تكييفا للطبيعة صعد إلى القمة بينما يسقط إلى القاع من كان أقل تكييفا. فإن التفاوت في الثروة والوضع الاجتماعي والنفوذ السياسي أمر طبيعي وحتمي يجب ألا تحاول الحكومة التدخل فيه؛ فدعم ومساعدة الفقير أو العاطل أو المحروم هو تحدٍّ للطبيعة نفسها. وقام وليم سمنر (1840 – 1910، وهو تلميذ سبنسر) بكل جرأة يعبر عن هذا التفكير عام 1889 بقوله: "السكير في البالوعة هو المكان الذي يحق أن يكون فيه". وتتعارض الدارونية الاجتماعية في الفكر الليبرالي مع فكرة الرفاهة الاجتماعية. إذا وفرت الحكومة المعاشات والإعانات والتعليم والعلاج المجاني؛ فذلك سيساعد الفرد على الكسل، وسيحرم من احترام نفسه، ولكن إذا تم تشجيع الناس على الاعتماد على أنفسهم فسوف يتمتعون بالإحساس بالكرامة، وسيصبحون عناصر منتجة في المجتمع. ولم تقتصر هذه الآراء على القرن 19، بل امتد أثرها إلى اليمين الجديد في أواخر القرن 20. فسعت إدارة ريجن إلى دعم "أيديولوجية الحدود" التي تؤكد على الاعتماد على النفس وعقد المشروعات. وكذلك هاجمت حكومات تاتشير وماجير في المملكة المتحدة "ثقافة التبعية" التي شجعتها حكومة الرفاهة، وتبنت بدلا منها "ثقافة المشروعات" على الطريقة الأمريكية. يطلق على الليبرالية الحديثة في بعض الأحيان ليبرالية القرن 20. تماما مثلما ارتبط ظهور الليبرالية الكلاسيكية بالرأسمالية الصناعية في القرن 19، تعلقت الليبرالية الحديثة بالتقدم في التنمية الصناعية والتي جلبت معها ثروات مهولة للبعض، ولكن صاحبها انتشار العشوائيات والفقر والجهل والمرض. وأصبح من الصعب التغاضي عن التباين الاجتماعي المتمثل في أوضاع طبقة العمال التي أصبحت الطبقة المحرومة من جراء الأجور المنخفضة والبطالة، وتدني ظروف العمل والظروف المعيشية. وكانت لهذه الأوضاع الأثر على الليبرالية البريطانية منذ أواخر القرن 19، ولم تظهر آثارها في الدول الأخرى إلا فيما بعد؛ فمثلا في أمريكا لم تتأثر الليبرالية الأمريكية بها إلا في الثلاثينيات عند حدوث أزمة الركود الاقتصادي. ففي ظل تلك التغييرات التاريخية كان من الصعب أن يتمسك الليبراليون بمقولة: إن الرأسمالية الصناعية جلبت معها الرخاء والحرية للجميع. ونتيجة لذلك بدأ مراجعة المبادئ الأولى التي تزعم أن السعي وراء المصالح الشخصية بدون قيود يؤدي إلى وجود مجتمع يتمتع بالعدالة الاجتماعية. وتزايد الهجوم على الفردية الاقتصادية وأعاد الليبراليون النظر في موقفهم إزاء الدولة. وأصبحت النظرية الكلاسيكية بخصوص الدور المحدود للحكومة غير قادرة على حل مشكلات التفاوت الاجتماعي وغياب العدل في المجتمع المدني. ومن ثَم بدأ الليبراليون الجدد في تشجيع سياسة التدخل الحكومي والدور الفعال للدولة. ويشارك الليبراليون الجدد الكلاسيكيين في تفضيل الأفراد المعتمدين على أنفسهم والمسئولين عن حياتهم، ولكن الاختلاف في أن ذلك يحدث فقط تحت أوضاع اجتماعية تسوق إلى ذلك. وترتكز الليبرالية الحديثة على مساعدة الأفراد من أجل تمكينهم من مساعدة أنفسهم. وشهد القرن 20 تنامي تدخل الحكومة في معظم الدول الغربية وكثير من الدول النامية في السوق لضمان الرفاهة في حدها الأدنى والذي في الغالب أخذ شكل تقديم الدعم للمواطنين للقضاء على الفقر والمرض والجهل. وإذا كانت الدولة المحدودة تمثل ما كانت عليه الدولة في القرن 19، أصبحت الدولة الحديثة في القرن 20 دولة رفاهة وذلك لأسباب تاريخية وأيديولوجية. كانت الحكومات تسعى وراء تحقيق النهوض القومي وزيادة قوى العمل الصحية وتعزيز جيوش قوية؛ كما تعرضت الحكومة في الانتخابات لضغوط من أجل الإصلاح الاجتماعي الصادرة من عناصر شعبية حديثة التصويت مثل العمال وفي بعض الأحيان الفلاحين. ولا يقتصر الجدل السياسي على نشر الخدمات والرفاهة الاجتماعية على أيديولوجية واحدة دون غيرها، ولكن تم تناولها بطرق مختلفة من قبل الاشتراكيين والليبراليين والمحافظين وأنصار الحركة النسائية حتى الفاشيين. طرح الليبراليون الجدد فكرة الرفاهة على النقيض التام مع الكلاسيكيين الذين مجدوا مبدأ مساعدة الذات والمسئولية الفردية. وكانت المساواة في الفرص حجة الليبراليين الجدد في الدفاع عن الرفاهة الاجتماعية. فإذا كان هناك أفراد أو جماعات محرومة بسبب ظروفهم الاجتماعية، فعلى الحكومة مسئولية اجتماعية للقضاء على هذا الحرمان. وتنعكس هذه المسئولية في تنمية دولة الرفاهة. ولا تقلص زيادة مسئوليات الحكومة من حقوق الفرد بل توسعها؛ فمثلا اكتسب المواطنون مجموعة من الحقوق الاجتماعية كالحق في العمل والحق في التعليم والحق في إسكان لائق. وكان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون بأن الحقوق الوحيدة التي يستحقها المواطن هي الحقوق السلبية التي تعتمد على تقييد نفوذ الحكومة مثل الحق في التعبير والحق في العبادة الدينية؛ حيث إنها تمثل "عالما خاصا" يجب ألا تقترب منه الحكومة. من الجانب الآخر نجد أن حقوق الرفاهة هي حقوق إيجابية من قبل الحكومة عن طريق توفير المعاشات والمنح والعلاج والتعليم المجاني. وأثناء القرن 20 كان للحكومات والأحزاب الليبرالية عادة الريادة في مناصرة قضية الرفاهة في المملكة المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى على يد حكومة أسكيث الليبرالية التي طبقت نظام المعاشات للمسنين والتأمينات الصحية وتأمينات البطالة. وعندما توسعت دولة الرفاهة في المملكة المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في عهد حكومة أتلي العمالية كانت قائمة على تقرير بفيريدج لعام 1942، وهو برنامج عمل تقدم به الليبرالي الحديث وليم بيفريدج (1879 - 1963)، ويقترح هذا التقرير إيجاد نظام شامل للأمن الاجتماعي يضم كل المواطنين "من المهد إلى اللحد". وقام الحزب الليبرالي في كندا بحملة لتبني سياسات للرفاهة شاملة، بينما أيد الحزب المحافظ التقدمي مبادئ المسئولية الفردية والعمل الحر. وتطورت الرفاهة الليبرالية في الولايات المتحدة في الثلاثينيات في عهد روزفلت. وبقت الفردية الاقتصادية ومساعدة الذات مسيطرة في القرن 20 حتى جاء روزفلت بـ"البرنامج الجديد" كإعانة عامة للعاطلين والمسنين والأطفال والأرامل والمكفوفين. واستمرت ليبرالية البرنامج الجديد بعد موت روزفلت في عام 1945 ووصلت ذروتها في الستينيات بسياسات جون كيندي التي تسمى "الحدود الجديدة" وبرنامج "المجتمع الكبير" في عهد ليندن جونسون الذي ركز فيه على تحسين الحقوق المدنية لدى السود الأمريكيين وكذا مواجهة الفقر والقذارة في المدن الأمريكية. كما نشأت التفرقة الإيجابية في الولايات المتحدة والتي يطلق عليها "العمل الإيجابي" لتعهدها الليبرالي في تكافؤ الفرص. وهنا يعامل الأفراد أو الجماعات باعتبارات خاصة تعويضا عن ظروف اجتماعية عائقة. ففي الولايات المتحدة تم تبني المبدأ في نطاق واسع منذ الستينيات لتوفير الفرص الاجتماعية للسود ذوي الدخول المنخفضة ومعدلات البطالة المرتفعة والإسكان الفقير. ويمكن في أمريكا للطلبة السود الالتحاق بالتعليم العالي بمؤهلات أقل من نظائرهم البيض. ومن الطبيعي يمكن تطبيق مبدأ التفرقة الإيجابية على العوائق الاجتماعية الأخرى الناتجة عن الجنس والسن والإعاقة الجسدية. وبالإضافة إلى توفير الرفاهة الاجتماعية سعت الحكومات الغربية في القرن 20 إلى تحقيق الرخاء وذلك "بإدارة" اقتصادهم. ويأتي ذلك مرة أخرى ضد التفكير الليبرالي الكلاسيكي، لا سيما السوق الحرة التي تعمل ذاتيا، ومبدأ "دعه يعمل"، أو سياسة عدم التدخل التي صرف النظر عنها من جراء تزايد الاقتصاد الرأسمالي الصناعي تعقيدا وعدم قدرته على تحقيق الرخاء إذا تُرك يعمل ذاتيا. وقد أدى الركود الاقتصادي الكبير في الثلاثينيات الذي تسببه انهيار بورصة وول ستريت عام 1929 إلى معدلات عالية في البطالة في العالم الصناعي وكثير من الدول النامية. وكان ذلك تأكيدا لفشل السوق الحرة. وسارعت كل الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بتبني سياسات التدخل الاقتصادي لتجنب الرجوع إلى معدلات البطالة فيما قبل الحرب. وكانت تلك السياسات مستوحاة لحد كبير من كتاب "النظرية العامة عن العمالة والمصلحة والمال (1936)" لجون ماينارد كينز الذي هاجم فكرة السوق الذي يعمل ذاتيا. وفي نظر الكلاسيكيين هناك حلول للمشكلات الاقتصادية فتنخفض البطالة مع انخفاض الأجور ولكنها تستمر على ما عليها إذا كانت مستويات الأجور غير مرنة، وذلك عادة يحدث ضغوط الاتحادات العمالية. فحرفيا حسب هذا الرأي يقيم العمال أنفسهم خارج وظيفتهم. وجاء كينز يقول: إن مستوى النشاط الاقتصادي، وبالتالي العمل يحدد حسب الحجم الكلي للطلب -الطلب الإجمالي- في الاقتصاد: إذا انخفضت الأجور تقل قوة الشراء في الاقتصاد، وبالتالي الطلب الإجمالي. وإذا قل المال في يد الناس قل إنتاج السلع والبضائع، وحينئذ تتحرك السوق الحرة لولبيا نحو الركود ولا يمكنها النهوض بنفسها. وذلك ما حدث في الثلاثينيات على حد قول كينز، وعلى خلاف ما سبقها من الدورات التجارية لم ينتهِ الركود الكبير إلى الارتفاع "الطبيعي" في الثروات الاقتصادية. ويرى كينز أن الحكومات يمكن أن تدير اقتصاداتها من خلال الطلب الإجمالي، فالصرف الحكومي عبارة عن إدخال مجالات جديدة من الطلب في الاقتصاد، فمثلا بناء المدارس يخلق فرص عمل للبناءين ويوجد الطلب على مواد البناء، مما يكون له الأثر في الاقتصاد فهؤلاء البناءون سيكون لهم القدرة أكثر على الشراء. وذلك ما يطلق عليه كينز "الأثر المضاعف". أما الضرائب فهي تعتبر "ارتدادا" في الاقتصاد؛ لأنها تقلل من الطلب الإجمالي وتخمد النشاط الاقتصادي.. وفي أوقات البطالة اقترح كينز أن الحكومة عليها أن "تنعش" الاقتصاد من خلال زيادة المصروفات العامة أو خفض الضرائب؛ فذلك يحل مشكلة البطالة، ولكن ليس "باليد الرأسمالية الخفية"، بل بتدخل الحكومة من خلال العجز في الميزانية؛ أي أن الحكومة تنفق أكثر مما لديها من موارد. وتمكن طريقة كينز في إدارة الطلب الحكومة من التحكم في العمل ومستويات النمو، وبالتالي ضمان الرخاء العام. ومع توفير نظام الرفاهة الاجتماعية اعتبرت الليبرالية الحديثة إدارة الاقتصاد عملا بنّاء يعمل على تعزيز الرخاء والتوافق في المجتمع المدني. ولم يرفض كينز الرأسمالية ولكنه كان منقذها؛ ففي رأيه عدم تقييد المشروعات الخاصة شيء غير مُجدٍ في المجتمعات الصناعية المعقدة. وكان "البرنامج الجديد" في عهد روزفلت أول تطبيق لفكر كينز، ولكن تعهد روزفلت لميزانية متوازنة؛ حيث إن رفض زيادة الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة من أجل رفع إيرادات الضرائب أدى إلى انخفاض تدريجي في معدلات البطالة. وفي الواقع انتهى الركود الكبير بالتوسع الملحوظ والمنتشر في المجال العسكري استعدادا للحرب، ولم يكن ذلك مقصودا لعلاج مشكلة البطالة. وبدا هذا الوضع جليا في ألمانيا عندما انخفضت معدلات البطالة إلى النصف في 18 شهرا بعد تعيين هتلر مستشارا في عام 1933. وتم معالجة البطالة في الفترة بين الحربين بدون قصد بالطريقة الكينزية. وعلى صعيد آخر بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية رسخت مبادئ كينز على نطاق واسع لتصبح تقليدا اقتصاديا في الغرب بدلا من سياسة "دعه يعمل" القديمة. وبالفعل استخدمت كل الدول سياسة الإدارة الاقتصادية في إعادة البناء الاقتصادي في الفترة ما بعد الحرب وفي التخطيط والنمو المستقبلي. وكان الفضل للكينزية التي كانت السبب الرئيسي في الازدهار الاقتصادي الطويل في الخمسينيات والستينيات؛ حيث الانتشار الواسع في الثراء، وذلك على الأقل في الدول الغربية. وانتصرت في تلك الفترة مبادئ كينز على مبادئ المحافظين والاشتراكيين حتى الليبراليين. ولم تواجه الطريقة الكينزية أي نقد في الغرب الصناعي حتى ظهور المشكلات الاقتصادية في السبعينيات التي جددت التفكير في النظريات الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي. وتحولت الأولويات عن الطريقة الكينزية في العمالة الكاملة إلى سياسات تخفيض الضخم الذي ارتفع بشكل مستمر نتيجة لزيادة النفقات العامة مما عرقل النمو الاقتصادي. ولكن مرة أخرى تم إحياء مبادئ كينز في الاقتصاد بعد فشل ثورة السوق الحرة في الثمانينيات التي أسفرت عن سقوط اقتصادي طويل المدى. وبالرغم من أن الكينزية البحتة التي طبقت في الخمسينيات والستينيات لا جدوى لها في عصر العولمة؛ فإنها جددت الوعي بحقيقة الرأسمالية غير المنتظمة التي لا تجلب إلا استثمارا منخفضا وقصر الأجل وانهيارا اجتماعيا.
الليبرالية في القرن 21
فرانسيس فوكوياما
اتسم القرن 20 بإعلان الليبرالية انتصارها على مستوى العالم في مقولة فوكوياما الشهيرة حول نهاية التاريخ التي أغفلت جرائم الليبرالية الاقتصادية في حق الطبقات الدنيا وفي حق الشعوب غير الغربية، وقد عبر عن ذلك فوكوياما (1989) في قوله: "إننا نشاهد نهاية التاريخ وذلك في نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وعالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية كآخر شكل للحكومة الإنسانية". ومن السهل تأسيس هذه الفرضية على بعض الشواهد التاريخية؛ فبعد سقوط الفاشية في عام 1945 كانت الشيوعية السوفيتية البديل الرئيسي لليبرالية الغربية، ولكن حتى هذا النظام انهار باندلاع الثورات في دول أوربا الشرقية في الفترة 1989 - 1991 رافضة لمبادئ التخطيط والتدخل الحكومي. وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يتم عملية دمقرطة النظم السياسية بانتشار التنافس الحزبي وتنامي الاتجاه نحو الإصلاح الاقتصادي القائم على السوق. وإذا كانت تلك العمليات المستمرة تعكس التفوق الواضح لليبرالية على الأيديولوجيات المنافسة (كنهاية للتاريخ كما تزعم النظرية)، أو أنه نتيجة لظهور نظام رأسمالي كوني تسيطر عليه شركات متعددة الجنسية (كما يحذرنا النقاد)، فالمستقبل يبدو لنا ظاهرا: سوف تنكمش الاختلافات الاقتصادية والسياسية تدريجيا في معدلات مختلفة لتلتقي جميعا على النموذج الليبرالي. لكن الانتصار الليبرالي يواجه تحديات داخلية وخارجية جديدة. فداخليا تتعرض الليبرالية في المجتمع الغربي لنقد من قبل المفكرين الذين أعادوا اكتشاف أهمية المجتمع التراحمي. وظهرت "النظرية المجتمعية" كرد فعل لمساوئ الليبرالية الفردية. وعلى سبيل المثال رفض المفكران أليسدير ماك إنتير ومايكل ساندل الفردية على أنها سطحية ومعادية للجماعة الاجتماعية، حيث إنها تعامل الذات على أنها غير مسئولة تستمد هويتها من داخلها بدلا من العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية المحيطة بها. ففي نظرهم أن الذات جزء لا يتجزأ من الممارسات والعلاقات الاجتماعية، كما أن العيب الذي يكمن في الليبرالية هو أنها غير قادرة على إنشاء سياسة الصالح العام؛ بسبب تركها للفرد اختيار الحياة التي تروق له والتي يستحسنها من مفهومه الشخصي. ويساعد هذا الفراغ الأخلاقي على تفكك المجتمع. ونظرا لعدم تقيدهم بالواجبات الاجتماعية والمسئولية الأخلاقية. ولا يهتم الأفراد إلا بمصالحهم وحقوقهم الشخصية؛ فعلى المدى الطويل قد يفقد المجتمع الليبرالي المنابع الثقافية لمراجعة الأنانية غير المقيدة أو لتعزيز التعاون والجهد الجماعي. ويأتي التحدي الخارجي لليبرالية من خارج الغرب. فمع نهاية النظام العالمي الثنائي القطب الذي تمثل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي أفسح المجال لقوى جديدة غير ليبرالية كالتي ظهرت مع الديمقراطية الليبرالية. ففي أوربا الشرقية أثبتت الصحوة القومية التي يستمد منها الشعب القوة والثبات والأمن أنها أقوى من الليبرالية الحاسمة. وترتبط هذه القومية بالنقاء العرقي والسلطوية عنها بالمبادئ الليبرالية مثل إقرار المصير والكبرياء الحضري. كذلك ظهرت نماذج متنوعة من الأصولية في الشرق الأوسط وفي بعض مناطق أفريقيا وآسيا. وينتشر الإسلام السياسي عن الليبرالية في كثير من الدول النامية؛ لأنه قادر على تقديم موقف غير غربي بدلا من اتخاذ موقف ضد الغرب. وذلك بالإضافة إلى أن المناطق التي نجح فيها اقتصاد السوق لم تكن دائما قائمة على قيم ومؤسسات ليبرالية، فمثلا قد ترجع صحوة شرق آسيا إلى قدرة الكنفوشسية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي عنها إلى تأثير المبادئ الليبرالية مثل المنافسة والبقاء الذاتي. وبدلا من الاتجاه نحو عالم ليبرالي موحد تتصف التنمية السياسية في القرن 21 بتنامي التنوع الأيديولوجي، وقد يكون الإسلام والكنفوشسية وحتى القومية السلطوية المنافسين الجدد لليبرالية الغربية. ويقول جون جراي صاحب كتاب "ما بعد الليبرالية": إن هذا المنظور ينبع من طور أكبر؛ ألا وهو انهيار المشروع التنويري الذي تعتبر الليبرالية جزءا منه. ويفترض هذا المشروع أن هناك مجموعة من المبادئ العقلانية قابلة للتطبيق العالمي يمكن أن ترسي أوضاعا تسمح للأفراد بالسعي وراء غايات غير متساوية. وتقع مهمة الليبرالية في إيجاد مؤسسات لتحقيق هذا الهدف، وهي تتمثل في الحكومة التمثيلية والتنافس الحزبي واقتصاد السوق لتحقيق حياة طيبة للفرد بدون خلل وانهيار اجتماعي.
مراجع مقترحة للباحث في النظرية الليبراليةAlbrow,Martin,1996,The Global Age: State and Society Beyond Modernity ,London:Polity Press.
Alejandro,Roberto.1993.Hermeneutics, Citizenship and the Public Sphere, New York :State University of New York Press.
Andrews,Geoff(ed.),1991,Citizenship,London:Lawrence and Wishart Ltd.
Bauböck,Rainer,1994, Transnational Citizenship :Membership and Rights in International Migration,Vermont :Edward Elgar Publishing Company.
Benhabib,Seyla,1996,Democracy and Difference: Contesting the Boundaries of the Political, Princeton:Princeton University Press.
Blumer, Martin and Rees, Anthony M. (eds) ,1996, Citizenship Today, London:University College London Press.
Bohman,James and William Rehg, (eds.),1997,Deliberative Democracy: Essays on Reason and Politics, Cambridge:The MIT Press.
Bridges , Thomas. 1994.The Culture of Citizenship : Inventing Postmodern Civic Culture , New York : State University Press of New York ..
Castelles,Manuell,1977,The Urban Question, London: Edward Arnold.
Castelles,Manuell,1978, City and Power, London :Macmillan..
-Castells,Manuell,1996/1997/1998,The Information Age: Economy, Society and Culture(The Rise of the Network Society/The Power of Identity/End of Millenium), Massachusetts: Blackwell Publishers.(3 Volumes)
Connally,William E.,1974,The Terms of Political Discourse, Washigton D.C.:Heath Publications.
-Dagger,Richard,1997,Civic Virtues :Rights, Citizenship ,and Republican Liberalism ,Oxford :Oxford University Press.
Dauenhauer,Bernard P.,1996,Citizenship in a Fragile World, Maryland: Rowman & Littlefield Publishers,INC.
,and Communities,qCharlottesville:University Press of Virginia.
Gutman,Amy.and Thompson,Dennis,1996, Democracy and Disagreement, Cambridge: Harvard University Press
Haas,Michael,1992,Philosophical Underpinnings of Social Sciences Paradigms,New York:Praeger.
Isin,Engin F.(ed.),Democracy, Citizenship and the Global City, New York: Routledge,2000.
Janoski,Thomas,1998,Citizenship and Civil Society,Cambridge :Cambridge University Press.
Kymlicka, Will,1995 Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights, Oxford: Oxford University Press.
Rawls,John,1996(2nd ed.),Political Liberalism,New York:Columbia University Press.
Rennger,N.J., Political Theory, Modernity, and Postmodernity : Beyond Enlightenment and Critique,Oxford:Blackwell,1995.
Rosenblum, Nancy L ,1987,Another Liberalism:Romanticism and the Re-construction of Liberal Thought, Cambridge:Harvard University Press.
Sandel,Michael ,1995(11th ed.),Liberalism and the Limits of Justice, Cambridge:Cambridge University Press.
Savage, Mike and Warde,Alan,1993,Urban Sociology: Capitalism and Modernity, London : Macmillan.
Stankiewicz,W.J.,1976,Aspects of Political Theory :Classical Concepts in an Age of Relativism, London: Collier Macmillan.
Steenbergen ,Bart Van (ed.),1996(2nd ed.),The Condition of Citizenship, London: Sage.
Stivers,Richard.1994.The Culture of Cynicism:American Morality in Decline,Oxford:Blackwell
Taylor, Charles. 1989. Sources of the Self: The Making of the Modern Identity,Cambridge : Cambridge University Press.
Turner, Bryan , 1986,Citizenship and Capitalism,London:Allen & Unwin.