2011/04/21

ما أكثر القول وما أقل العمل - الإمام محمد عبده





إن من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره علي ما ضل عنه، وأن يعيد علي الناس ما لا يعيبه هو علي نفسه، وذلك أن من كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه، ومعترف بنقصه من وجه آخر، وخبيث المقصد دنئ الهمة من الوجه الثالث، أما جهله فلا أنه ادعي بما ليس فيه من علم أو فضل، مع كون الناس لا يرون أثرا ظاهرا لعلمه أو فضله، بمعني أنه لم يؤلف تأليفا نفيسا مثلا ينتفع به عموم الناس، ويعترف بنفاسة ما فيه العقلاء والمتبصرون من أي أمة، ولم يكشف حقيقة، ولم يحل حقيقة، واعتقد أن سامعيه يصدقونه فيما يدعيه، فقد جهل أن النفوس مجبولة علي تطبيق المسموعات علي المشاهدات وواقع الأمر، فإن لم تجدها مطابقة رمت بها في وجه قائلها، فتقلب دعواه مقتا عليه، ويسقط من قلب الناس أجمعين، إذ لم يروا له أثرا يفيدهم سوي أنه يخبر عن نفسه بأوصاف لا حقيقة لها، وكذلك إذا أرشد إلي غاية هو متوجه صوب ضدها، ويظن أن الناس يسترشدون بإرشاده فهو لا محالة مطبق الغفلة مركب الجهل، إذ لا يعلم أن الأفعال تؤثر ف بالنفوس أضعاف ما تؤثر الأقوال، فإن القول عند النفس يحتمل التصديق والتكذيب، فتتردد في مفهومه، فلا يقودها إلي العمل إلا بعد تكرار وتذكار، أما الفعل فهو أمر مشهور ينطبع في النفس أشد انطباع، فتندفع إليه خصوصا إن كانت فيه لذة معجلة، وإن عاب علي غيره وصفا هو موجود فيه فقد جهل أن ذكره لعيب الغير ينبه الأذهان للنقص القائم بنفسه، فإن المتكبر مثلا إذا ذم الكبر في غيره فقد ذم في نفسه من حيث لا يشعر،فهو جاهل بنفسه وبما يعود عليها وهو ظاهر.

وأما اعترافه بنقصه وعجزه فلأنه لم يصدر منه ذلك ـ أي الدعوي بما ليس فيه وترغيب الناس فيما لا يرغبه لنفسه أي فيما ليس بمتصف به بل هو منحرف عنه وذكره لمثالب الغير وهي فيه ـ إلا لأجل أن يبين للسامعين كماله وفضله، ويظهر لهم وصوله لما يهديهم إليه، وخلوه من النقص الذي يلوم عليه الغير، حتى يعظموه، ويقوموا له بقضاء بعض حاجاته، حيث علم أن الكمال الذي يدعيه هو مناط التعظيم وجلب المنافع، وكأنه بذلك ينادي علي نفسه بأنه لم يبلغ من ذلك شيئا، لأنه لو بلغ الكمال الذي يدعيه لكانت نتائج ذلك الكمال ناطقة برفعة قدره، شاهدة بعلو مقامه، سواء ادعي ذلك عن نفسه أو لم يدع، وسواء غيره أو كمل، ولم يكن هناك داع لمحه لنفسه أو ذمه لغيره، بل تكون آثار فضله فاعلة في النفوس، جاذبة لها إليه بذاتها، فمن تكلف الإطراء علي نفسه بوصف من الأوصاف الفاضلة، أو رام إظهار كماله بالحط من قدر غيره، فذاك معترف بأنه خال من الفضيلة، حيث لم تشهد له الحقيقة فاضطر إلي النداء بالكذب، ليقنع السامعين بأنه كذلك.


وأما خبث مقصده ودناءة همته، فلأن من هذه صفته لا يريد أن يكون ذا فضيلة قط، ولا يبتغي الوصول إلي كمال، ولكنه يطلب عيشا حيثما اتفق، فإذا جلس إلي بعض البسطاء أو غيرهم طلب التلبيس علي عقولهم، ليقرر في نفوسهم انه بالصفة التي يذكرها عن نفسه، أو يرشد إليها، وأنه خال من العيب الذي يسب به غيره، ليوقروه فيكتسب منهم مساعدة علي بعض أغراضه الخسيسة، أو يستفيد منهم حطاما يسد به بابا من أبواب نهمته وشرهه، فهو في ذلك بمنزلة المتشعبذين أو المختلسين أو السارقين، ونحو ذلك من كل ذي حيلة خسيسة لجلب الأموال، ولا يختلف عن هؤلاء إلا بالاسم فقط، حيث يقال إنه غش الناس بحكاية الكذب عن نفسه، وهو المسمي في عرفنا (بالفشر ويقال لصاحبه فشار).


فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن الوصف يوجد في كثير من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلا جدا ـ (وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكر به لعلها تنفع الذكري).


إننا إن طرقنا المجالس الخصوصية في بواطن البيوت، والأندية العمومية في الأماكن العامة، لا نعدم قائلا عن نفسه: إنه قرأ من العلوم معقولها ومنقولها، وطالع الكتب العالية، ووقف علي المباحث الجليلة وكشف بواطن الدقائق الخفية، واستطلع الأسرار، وكان مع ذلك مشهورا في زمن الاشتغال بالفطنة والذكاء، وتوقد الفكر وقوة الحافظة ونحو ذلك، وآخر يقول: إنه بلغ من الاقتدار علي الإقناع في الجدل والإفحام عند المخاصمة، وتفهيم الطالب عند الاستفادة، حدا لا يصل العالمون إلي غباره، وإن له من طريق الإقناع والإفهام ما لا يتيسر لغيره معرفتها، وإنه يحيي بكلامه الأذهان الميتة، ويحشر إليها صور المعلومات، ويودع فيها أسرار الكائنات، ولو سألت كل واحد من الذين يظن فيهم وصف العلم والتعليم لرأيته يحدث عن ذاته بكل الذي قلناه، ويقول: لو كان الناس يسلكون هذا المسلم الذي أسلكه لانتشر العلم وعمت المعرفة.


لكننا إذا رجعنا إلي الواقع ونفس الأمر، رأينا أن التآليف والتصانيف مفقودة، وإن وجد منها شئ كان ناقصا، إما من جهة المعني وإما من جهة اللفظ، بحيث لا تدل عبارته عل يما قصد منها، فيكون كعدمه، والطالبون للعلوم علي اختلافهم قاصرون عن إدراك ما أضاعوا عمرهم فيه، ودليلنا علي ذلك احتياجهم دائما إلي غيرهم، وعدم قدرتهم علي الاستقلال بعمل يعملونه في نفس العلم أو الصناعة التي تعلموها، فتارة يحتاجون إلي الأجانب، وأخري إلي بعض الوطنيين ـ (وربما نبين هذه الجملة في وقت آخر) ـ .


ومن الناس من إذا ذاكرته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح غوامضها، ويبين الواجب فيها، والطرق الموصلة إلي جلب المنافع ورفع الضار، والوسائل المؤدية إلي تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها، من رفع منار العدالة،وبث روح العلم وتقرير المساواة وما شاكل ذلك، ثم إذا فوض إليه أمر من تلك المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير وأقربهم إلي الشر، واستنكف عن المساواة، واستهجن معني العدالة، وإن كان يعبر عن نفسه بلفظها، وسار مع أغراضها وشهواته، وجعلها قانونا يتبع، ويعد كل ذلك حقا، وهو في درجة وعظه الأولي لم يخجل ولم يتلعثم له لسان في النصح ودعوي معرفة الحق، ولو أن أحدا عارضه بحق في أي جزئية عقب ترغيبه في قبول النصح والمساواة لرأيته يتذمر ويتضجر، ويود أن يفنك بمن يناقضه في بعض آرائه ويهدي نصحا في بعض أعماله.


ومنهم من يقول إن كل مصيبة ألمت بالنوع الإنساني لم يكن منشؤها إلا التباغض والتحاسد، وتفرق الكلمة، والميل إلي المنافع الشخصية، وعدم الاكتراث بمنافع العامة، ونحو ذلك من الأقوال الصحيحة المسلمة، ولو أنك لاقيت كل يوم ألف شخص لرأيته يقر بذلك ويعترف به، مدعيا أنه يميل كل الميل إلي الاتحاد والائتلاف، وإنما تأتي النفرة من غيره، ثم لو أتي إليه مطالب بحق في وقت المذاكرة لرأيته يعد هذه المطالبة أمرا كبيرا، وإن كانت بغاية من اللطف والإنسانية، والتوي من الغيظ التواء الثعبان، ولو دعي إلي إغاثة ملهوف، أو إزالة مكروه عن بعض إخوانه الداخلين تحت إمرته، رأيته يتعالي ويتعذر أو يتمنع ويستكبر ويقول: ليس هذا من خصائصي، ولو طلب إلي تأسيس أمر خير يفيد الزراعة أو الصناعة، أو يساعد علي التربية الحقة، يستصغر ذلك ويسفه آراء طالبيه، ويقول: ماذا يعود علي شخصي من ذلك؟ وما لي وللعامة؟ دعهم في شأنهم يرزقهم الله من غيري!! كأن جنابه يظن أن المحبة والاجتماع والألفة التي يدعيها ويميل إليها يجب أن تكون له من العير، لا في مقابل منفعة، ولا جزاء لدفع مضرة، بل لابد أن ينفعه الناس وهو لا ينفعهم، وما أجهل أمثال هؤلاء السفهاء وأضل رأيهم ـ (ومن العجيب أنهم كثير جدا) ـ.


ومنهم من ينتقد علي الظلمة ومرتكبي الجرائم وفاسدي الإداري وسيئ التدبير، ثم تراهم واقعين فيما ينتقدون علي الغير، كأن محل الانتقاد أن يكون الفعل صادرا عن سواهم ذكرتهم لا يعرفون في العالم قبيحا ولا حسنا، ولا صحيحا ولا فاسدا، وإنما هي ألفاظ ورثوها نطقا ولم يتفهموها حق الفهم، وألفوا استعمالها في مواقع مخصوصة، فهم يستعملونها كما سمعوها بدون أن يعلموا حقيقة أو يقفوا لها علي مرمي، وحقيقة أمرهم أنهم جهلاء أنذال عديمو الشرف الإنساني حقيقة، ووجودهم في الهيئة الاجتماعية شؤم عليها، وهم في رتبة الحيوانية الأولي، لا يعترفون بالحقائق الثابت، بل لا يرون حسنا إلا ما يصل إلي إحساساتهم الظاهرة من اللذائذ الوقتية، فإذا مضي وقتها ذهلت أذهانهم عنها، ولا ينتهون لحسنها إلا إذا وردت عليهم مرة أخري، وهكذا ولا يرون قبيحا إلا ما يصل إلي إدراكاتهم من المؤلفات الوقتية، فإذا زال ألمها غفلوا عنها كأنها لم تمسهم، فإن رأوها لاحقة بغيرهم لم يعدوها مؤلمة، ولم ينظروا إليها نظر الآسف المستنكر، فيختلف عندهم حس الشئ وقبحه بالإضافة إلي أنفسهم تارة وإلي غيرهم تارة أخري، وليس عندهم صورة ثابتة لماهية الحسن وماهية القبيح، ولا حقيقة النافع أو حقيقة الضار، وإنما هي أهواؤهم يعبرون عنها بالألفاظ المصطنعة، كالمصلحة العامة، والمنفعة العمومية، والحقوق الوطنية، وما شاكل ذلك فهم لا يسلمون من شر ما يقولون وما يفعلون، فجهلهم لا محالة يعود عليهم بعاقبة بئس العاقبة.


ولكنا لا نحب ذلك، ونو أن يكون الفعل أكثر من القول، وأن يكون كل شخص من أبناء بلادنا ـ صغيرا كان أم كبيرا ـ مجدا في نيل الفضيلة الثابتة، التي يلهج بتحسينها وإجراء مقتضاها، حتى تكون بذاتها شاهدا عدلا علي أهلية صاحبها لما يقول، وتنشر الأعمال الصالحة المنطبقة علي الشرائع والقوانين، فتسير المصالح علي صراط مستقيم، وينال كل شخص حظه الحقيقي من ثمرت أتعابه الآتية علي وجه منتظم، فيعود بالنفع علي العامة والخاصة، أما الفخفخة وكثرة اللغو فإنها من شدة العجز لا تعيد ولا تبدي، وسنعود إلي هذا الموضوع مرة أخري عند الفرصة إن شاء الله.