2011/04/21

الإنسان والشيء - المسيري





نحن نعيش في عالم يحوّلنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمسة، إذ تهيمن عليه رؤية مادية للكون. ولنضرب مثلاً بالـ تي-شيرت  الذي يرتديه أي طفل أو رجل. إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضـي لسـتر عورة الإنسـان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة الـ تي-شيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/ المادة، ثم تُوظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال) وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً وبائعاً ومستهلكاً، أي أن الـ تي شيرت أصبح آلية كامنة من آليات تحويل الإنسان إلى شيء.


ويمكن قول الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو برئ، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه وتصبغ وجدانه، شاء أم أبى. فإن قَطَنَ الإنسان في منزل بُنيَ على الطراز المعماري العربي والإسلامي فلا شك أن هذا سيزيده من ثقة في نفسه واعتزازه بهويته وتراثه. ولكننا لا نرى في كثير من المدن من العالم الإسلامي أي مظاهر أو آثار للرؤية العربية الإسلامية (إلا في المسجد) وبدلاً من ذلك أصبح المنزل عملياً وظيفياً، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية، أي أنه مثل الـ تي شيرت أصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادةً وظيفي، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية (الرؤية المادية تفضل البساطة على الجمال المركب، ومن هنا عبارة "خليك طبيعي").ـ







ونفس الشيء ينطبق على طعام التيك أواي أو السفاري، هو الآخر يعيد صياغة وجدان الإنسان. الناس هي التي تُعد طعامها بنفسها، ثم يتناولونها سوياً. هذا ما كان سائداً في كل أرجاء العالم بما في ذلك الغرب. أما ظاهرة أكل طعام قد تم إعداده من قبل، ويأكله المرء وهو يسير أو يجري، فهذه ظاهرة جديدة على الجنس البشري، ولابد أن نتنبه إلى الرؤية الكامنة وراءها، فهي رؤية تعتمد السرعة والحركة في الحيز المادي، مقياسا وحيدا، وهي بذلك تحوِّل الإنسان إلى كائن نمطي يشبه الآلة.

إن هذه الوجبة السريعة الحركية تعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة مثل أن يجلس المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه في شكل حلقة ليتناول الطعام معهم فيتحدثون في مواضيع شتى، فالإنسان هو من يأتنس بغيره. ولعل العبارة العامية المصرية "أكلوا عيش وملح سوا" (أي سوياً) تشير إلى مجموعة القيم هذه. وأنا لست من الغباء بحيث أطالب بتحريم أو تجريم هذه الوجبات، فأنا أدرك تماما ضرورة اللجوء لكثير من الإجراءات ذات الطابع المادي (الاقتصادي السياسي) في حياة الإنسان اليومية، والوجبة السريعة كثيرا ما تكون ضرورية، بل وحتمية. ولكن عندما تتحرك هذه الإجراءات المادية إلى المركز وتصبح هي القاعدة والمعيار، نكون قد سقطنا في العلمانية الشاملة. وقد قرأت مؤخراً أن عدد الأقواس الصفراء، علامة ماكدونالد، يفوق عدد الصلبان في العالم الغربي!

وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة (فهي معظمها حلال)، تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم.

وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! وقد تحدثت إحداهن مؤخرا عما سمته "الإغراء الراقي"، مما يدل على عمقها الفكري الذي لا يمكن أن تسبر أغواره. أليس هذا أيضاً هيمنة النموذج المادي على الوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية؟ ومع هذا، تُصر الصحف على أن «فلانة» المغنية أو الراقصة أو عارضة الأزياء لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. والمسـكينة لا عـلاقة لها بأية مرجعية، ولا أية قيمة ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون فاتناً، ولكنه ولا شك محدود ونسبي. كما أن خبراتها مع أزواجها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية مادية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية). وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع- ربما من جانبها ومن جانب المتلقي معا.

ولنتخيل الآن إنساناً يلبس التي شيرت، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر- تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية) وينام على سرير وظيفي ويشرب الكوكاكولا، وينام على سرير وظيفي، ويشاهد الإعلانات التجارية، التي تغويه بالاستهلاك والمزيد من استهلاك سلع لا يحتاج إليها في المقام الأول ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة عليه أن يجري بسيارته المستوردة بسرعة مائة ميل في الساعة، ويهرع بسيارته من محل عمله لمحلات الطعام التيك أواي ومنها على الشوبنج مول الذي يتسلع البشر ويداوم على مشاهدة الأفلام الأمريكية (إباحية أو غير إباحية) بشراهة غير مادية، ويسمع أخبار النجوم وفضائحهم، ويدمن تلقي الحكمة من النجمات الساطعات أو المغمورات، أفلن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها. لقد سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه.

ونحن حين نتحدث عن الحضارة المادية فنحن عادةً ما نتصور أننا نتحدث عن الحضارة الغربية وحدها، وهذا خلل ما بعده خلل، ففي الغرب يوجد كثير من المظاهر الإنسانية المتجاوزة لسطح المادة، ففي الغرب موتزارت وبيتهوفن والطعام الفرنسي وكثير من المظاهر المحتفظة بأصالتها وخصوصيتها.

إن المنتجات المادية الحديثة تتميز بكونها معادية للخصوصية، للخصوصية الغربية وللخصوصية الإنسانية. ولنقارن موسيقى الديسكو بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والعربية، و"التي شيرت" برداء الإنسان الغربي، ستجد أن منتجات هذه الحضارة المادية التي أسميها "ضد الحضارة" أنها حضارة غير منتمية لأي تشكيل حضاري أو اجتماعي. هي حقا بدأت في الولايات المتحدة لكنها ليست أمريكية، لأن الحضارة الأمريكية الحقيقية حضارة لها سماتها الفريدة، وهناك تقاليد حضارية أمريكية قامت هذه الحضارة الجديدة الضد بتقويضها. ولكن المشكلة أن كل هذه التقاليد وكل هذه الخصوصيات آخذة في التآكل بسبب المد الجارف للحضارة المادية، وهذه حضارة المادية ليست معادية للشرق وحده، بل هي ظاهرة ورؤية أمسكت بتلابيب العالم شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، ولا يظنن أحد أننا بمأمن منها ومن عدميتها وعدائها للإنسان.

كل هذا مقدمة لما حدث في عالم الرياضة. إن الرؤية المادية قد تغلغلت في كل مجالات الحياة. خذ على سبيل المثال عالم الرياضة. كانت ممارسة الرياضة في الماضي تهدف إلى تهذيب الجسد والنفس وتدريب الناس على التعاون وتسليتهم في الوقت ذاته، بحيث يقضون وقت الفراغ بطريقة متحضرة. كما أنها على مستوى آخر كانت تدريبا على الصراع الرقيق لتفريغ نزعات البشر العدوانية من خلال قنوات متحضرة. حينما كنت في مدرسة دمنهور الثانوية كان فريق كرة السلة من أهم الفرق على مستوى الجمهورية وكنا نصل للمركز الأول في بعض البطولات إن لم تخني الذاكرة. ولكن ما أذكره جيداً هو أن الأستاذ الحبروك، المشرف على الفرق الرياضية، كان ينصحنا أنه حينما كانت تأتي إحدى الفرق من المراكز المجاورة لنا، وهم عادةً كانوا أدنى منا في المستوى، كان يطلب منا ألا نهزمهم هزيمة ساحقة، بل أن ندعهم يحرزوا بعض الأهداف حتى لا يشعرون بالإحباط. وكنا نشجع فريق كرة القدم الخاص بدمنهور، ولكننا في الوقت ذاته كنا نشجع "اللعبة الحلوة" بغض النظر عن مصدرها. إن ما كان يهيمن علينا ليس النموذج المادي ولا النموذج الدارويني الصارم حيث يكون كل الناس إلا منتصراً أو مهزوم، ولا نموذج السوق وآليات العرض والطلب التي لا تعرف الله أو الإنسان، وإنما نموذج إنساني يقبل حتمية الاختلاف والصراع ولكنه لا يجعلها مرجعيته النهائية، إذ توجد قيم أخرى مثل التراحم والإيمان بإنسانيتنا المشتركة.

ولكن الرياضة انفصلت تدريجيا عن كل هذه القيم لتصبح مرجعية ذاتها، ومنفصلة عن القيمة وتصبح معايير الرياضة رياضية، ويصبح إحراز النصر هو الهدف الأعلى والأسفل والوحيد. ونسمع بعد ذلك عن تفرغ اللاعبين تماما للرياضة واحترافهم. والاحتراف يتناقض تماما مع فكره التسلية وتزجية وقت الفراغ واللعب بطريقة إنسانية متحضرة، فهي تجعل الرياضة مركز الحياة. قابلت مرة أحد كبار لاعبي كرة القدم في الولايات المتحدة وهي مختلفة عن كرة القدم في بقية العالم. واللاعبون لابد أن يتمتعوا بلياقة بدنية فائقة، وأجسامهم يجب أن تكون ضخمة وعضلاتهم بارزة حتى يمكنهم تحمل الصدمات. المهم، فتح لي قلبه وتحدت عن بؤسه، وكيف يراقب المدرب كل جوانب حياته العامة والخاصة، فهو يراقب وجباته اليومية ويطلب منه أن يأكل كذا من البروتين وكذا من الخضروات، كما يراقب حياته العاطفية بل والجنسية. فهو لا يمكنه أن يخرج مع صديقته قبل المباراة بأسبوع، ولا يمكنه مضاجعتها أو مضاجعة زوجته. وهو لم يستخدم مصطلح "تشيؤ"، أي أن يتحول الإنسان إلي شيء، ولكن هذا هو أدق وصف لما حدث له. في المدارس الثانوية في الولايات المتحدة، تقوم فرق كرة القدم بدراسة تاكتيكات الفريق الذي سينازلهم من خلال أفلام فيديو يصورونها لمباراة سابقة له، كما يدرسون أداءهم بنفس الطريقة. هل هذا له علاقة بالتسلية وباللعب، أم أنه ينبع من نموذج مادي صراعي، يجعل الفوز وهزيمة الآخر هو الهدف الوحيد؟ ومن هنا تدفع المكافآت السخية لأعضاء الفريق الفائز. وتنتهي المباريات في الآونة الأخيرة بمعارك يُجرح فيها بعض الناس، بل وقُتل ضابط شرطة في إيطاليا بعد مباراة حامية الوطيس. كل هذا يعني هيمنة النموذج الصراعي وتراجع النموذج الإنساني التراحمي.

وقد اقتحمت أخلاقيات السوق عالم الرياضة فيتم "بيع" لاعب مغربي لنادي إيطالي، ولاعب إيطالي لنادي ليبي وهكذا، وكأننا فى سوق النخاسة. ولذا بدلا من الانتماء إلى الوطن والقيم يصبح الانتماء إلى المال المحرك، الأول للإنسان الاقتصادي. ونسمع بعد ذلك عن عدد كبير من الرياضيين يستخدم المخدرات والأدوية المنشطة الممنوعة لتحقيق النصر. ويتقاضى أعضاء الفريق الفائز مبالغ طائلة مكافأة لهم، وهى مكافآت سخية على أدائهم، قد تصل إلى مرتب أستاذ جامعي لعدة سنوات. بل في إحدى الجولات الرياضية حصل كل عضو من أعضاء الفريق الفائز على (سيارة بي إم دابليو) وهذه قمة الأحلام العلمانية! أين كل هذا من قيم التعاون والصراع الرقيق والمرجعية الإنسانية؟ لقد اقتحمت اقتصاديات السوق هذا القطاع تماما، وسيطرت عليه قوانين العرض والطلب والمادية وتم تشيئ الإنسان ونزع القداسة عنه وتحول إلى مادة استعمالية مرنة، ليس فيها من الإنسانية سوى الاسم، أي أن النموذج المادي الصراعي الدارويني قد ساد تماماً. هذه هي مأساة الحضري، الذي وقع صريع هذا النموذج، وسلك سلوكاً متسقاً معه، فهاجت الدنيا ضده؟ والسؤال هو: لماذا هذا الهيجان والتهيج، أليست المسألة مسألة عرض وطلب، وليست مسالة انتماء وطني وإنساني؟! وعلى أية حال بعد الهيجان استقرت الأمور داخل إطار الخصخصة وقبل النادي الأهلي التعويض المالي المناسب عن فقدانه إحدى أشيائه الثمينة.

والله أعلم.