عملية التأريخ، كما يعرفها من ينشغل بها، تجري بنوعين متكاملين من النشاط البحثي. أولهما؛ تحليل المادة التاريخية، أي التقاطها من مصادرها ومظان وجودها وتحقيقها. وثانيهما؛ تركيب هذه المادة التاريخية في سياق بنائي واحد. والمادة التاريخية – من حيث هي أحداث ووقائع – تخضع لدى الباحث – أو المفروض أن تخضع – لمنهج موضوعي صارم في التحقيق والثبوت، لينكشف منها الثابت على وجه اليقين أو الظن الراجح، ثم هو يعيد تركيبها في سياق موضوعي من تداعيها الزمني، ووفقاً لما يتراءى لبصيرته البحثية من روابط العلل والمعلولات.
وفي كلتا المرحلتين، التحليل والتركيب، يوجد عنصر ذاتي وإن اختلفت درجته في المرحلتين. أقول إنه ذاتي، لا بمعنى أنه شخصي، ولا أنه من قبيل الهوى أو الاسترواح، ولكنه ذاتي بمعنى أنه لا ينتمي إلى المادة البحثية، إنما يرد من قبل الباحث. أي ينتمي إلى "عصر الباحث" وإلى مجتمعه وهمومه وشواغله، أو على هموم الباحث عن مجتمعه، ومفهومه عن عصره وشواغله. وقديماً قيل إن السؤال نصف الجواب لأن السؤال به ينطرح الموضوع ويتميز وضع المسألة، وتتحدد زاوية الرؤية وإطارها، ثم يرد الجواب الذي يتعين به المنظور أو المرئي في إطار معين ومن زاوية معينة.
ثمة علاقة جدال بين الباحث ومادته دائماً، وهي لا تنتهي إلا مع إنهائه بحثه؛ فالباحث أولاً يختار موضوعه، وهذا يعكس في أغلب الأحيان اهتماماً معاصراًَ بهذا الموضوع، لخاصة فيه تترجح لدى الباحث أهميتها، ثم إن الاختيار في ذاته يفيد أن للباحث فهماً ما لهذا الموضوع، ولا بد من وجود درجة ما من الفهم المسبق، فهي تمثل المعبر بين الباحثين وموضوعه، وبغيرها لا يستطيع العبور إليه. هذا الفهم المبدئي يمثل افتراضاً أو مجموعة من الافتراضات، بها يتلمس الباحث السبيل إلى مغاليق بحثه، أو هي تساؤلات تهديه في سعيه نحو مادته ولكن أي تساؤل إنما يقوم على درجة ما من درجات الفهم السابق، ثم تتوالى عمليات اكتشاف المادة التاريخية.
ومثال لتأثير عصر الباحث وشواغله في اختيار موضوعات البحث، ما نلاحظه من الكتابة عن التجارب الديمقراطية عندما تنطرح قضية الديمقراطية والاستبداد في وقت ما، والبحث في حركات الاستقلال والتحرير والثورات عندما تنطرح قضية الاستقلال الوطني، وقد تختلف وجهات الباحثين "المعاصرة" في أسلوب تحليلهم وتركيبهم مادة البحث، ولكن ذلك لا ينفي أن اختيار الموضوع كان فيه أثر لشواغل حاضرهم، ومثال لتأثير وجهة نظر الباحث في اختيار الموضوع، ما نلاحظه من اهتمام كثير من مؤرخي اليوم بالتأريخ للأوضاع الاقتصادية، فهذا يفيد فهماً لدى الباحث بأهمية العنصر الاقتصادي في تحريك أحداث السياسة، واهتمام الكثير منهم بالتأريخ للفئات الشعبية المختلفة، بما يفيد فهماً أوليًّا لدى الباحث بأهمية هذه الفئات في حركة التأريخ، وهكذا.
وبعد اختيار الموضوع ترد مرحلة جمع المادة. وجمع المادة التاريخية فيه قدر ما من الانتقاء من الأخذ والترك. وعند التأريخ لشخصية عامة مثلاً، وهذا موضوع جدُّ محدود بالقياس إلى غيره، يجد الباحث نفسه أمام رِكام فوق رِكام من المواد والوقائع والأحداث؛ سمنها ما يتعلق ببيئة الشخص المدروس ونشأته وتربيته، ومنها ما يتعلق بوضعه الاجتماعي من حيث الثروة أو الجاه أو نوع العمل، ومنها ما يتعلق بهواياته أو بسمته وقسماته. والباحث ينتقي من ذلك كله وفقاً للزاوية التي يعالج منها الموضوع، ووفقاً لمفهومه هو عن المؤثر وغير المؤثر من هذا الفيض من المادة. ومؤرخ الآداب مثلاً يختلف عن مؤرخ السياسة في جمعه مادته، الأول يؤثر ما قد يراه ذا دلالة في التكوين الوجداني للشخصية المدروسة، والثاني يؤثر ما قد يراه دالاً في تكوينها السياسي والاجتماعي. ونجد هذا الفارق واضحاً في تاريخ العقاد مثلاً للشاعرين ابن الرومي وأبي نواس، وفي تأريخه لسعد زغلول ففي عملية جمع المادة التأريخية قدر ما من الانتقاء لا يمكن تجنبه، ويصعب عزل عملية الانتقاء عن مفاهيم الباحث وزاوية رؤيته.
وبعد ذلك ترد عملية تحقيق المادة واختيارها من حيث الثبوت والنفي. وهذه العملية لها مناهجها الأكثر صرامة في التحقيق للحدث أو الواقعة أو السلوك. ولكنها قد تتأثر بمفهوم الباحث في نقده للرواة ونقده للوثائق، وفي اعتماده قولاً لقائل أو تضعيفه هذا القول. وبمثل ما نرى الباحث السُّني في الإسلاميات أسلس في التلقي عن رواة السنة منه عن رواة الشيعة، خاصة في موضوع الإمامة، فإن مصدر الرواية أو الوثيقة في التأريخ الحديث قد يتأثر الباحث في التلقي عنهما بموقفه من هذا المصدر، سيما فيما يثور بشأنه الخلاف من قضايا الفكر والسياسة.
ثم يرد بعد ذلك فهم الباحث للحدث أو الواقعة، أي استظهار دلالتها وفحواها. فإن واقعة دخول جيش إقليم إقليماً آخر، قد تسمى غزواً أو فتحاً أو ضماً أو توحيداً. وتختلف هذه الدلالة على طريقين، الطريق الأول موضوعي يتعلق بالظروف الملابسة للواقعة، كتوحيد ألمانيا في القرن الماضي، أو يتعلق بالأثر البعدي اللاحق، كدخول عمرو بن العاص مصر، تسميه فتحاً لما ترتب عليه من تعريب المصريين جميعاً وإسلام غالبيتهم الغالبة، فآل الأمر بهذه الواقعة إلى التوحد العقدي والحضاري ثم القومي. وعلى العكس يسمى دخول الفرنسيين ثم الإنكليز مصر غزواً؛ لأن الذاتية المصرية رفضت هذا الاقتحام وظلت تجاهده حتى لفظته. والطريق الثاني ذاتي عندما تختلف الدلالة لدى الباحث على أساس من وجهة نظر الباحث؛ مثل دخول السلطان سليم مصر، قد يعتبره نصير الجامعة الإسلامية فتحاً، ويعتبره الداعي للقومية المصرية غزواً.
ثم يرد أخيراً تركيب المادة التاريخية وإعادة بنائها، أي تشكيل هيكل الصورة التاريخية لمجموعة من الأحداث في سياق زمني متصل، وهذه العملية يتحكم فيها أولا وبطبيعة الحال تسلسل الأحداث وتداعيها، ولكن مفاهيم الباحث تتخللها من جهة تصوره لروابط العلة والمعلول عند ربط الحدث بأسبابه وآثاره. ومن هنا يمكن أن يختلف الباحثون في صياغتهم لإلغاء معاهدة 1936 الذي جرى على يدي حكومة الوفد في مصر سنة 1951 من حيث الأسباب والآثار، أو يختلفون في صياغة الحرب الأوروبية لسنة 1914 من حيث تركيب الحدث مع ما ولده وما أسفر عنه. في هذه العملية يصوغ الباحث الأحداث في تداعيها وتسلسلها، ولكنه مع ما تمليه مفاهيمه النظرية أو موقفه السياسي والفكري يسلط الضوء من الأحداث السابقة على ما يعتبره علة بما يفيد لديه وبما يصور للقارئ أن التداعي قائم في الأساس بين هذا الحديث و"العلة" وبين الحدث اللاحق "المعلول".
وإذا أمكن اصطلاحا اعتبار المادة التاريخية هي "الموضوع"، واعتبار الباحث وما يرد بذهنه من أفكار ومواقف ونظريات سياسية وأحكام مسبقة عن المادة التاريخية "ذاتا"، فإن عملية التأريخ تتكون من امتزاج هذين العنصرين، بدرجات تتفاوت لدى الباحثين ولكنهما موجودان على أية حال، ولا محيص عن ذلك[1]
على أنه ليس معنى ما تقدم جميعه، أنه لا توجد حقيقة تاريخية قائمة بذاتها مستقلة عن الباحث، أو لا توجد معايير لضبط الحقائق التاريخية في أحداثها أو في سياقها، وللاطمئنان إلى درجة الصدق فيها والثبوت. ورغم ما يرد عن الباحثين من اختلاف في صياغة الحقيقة التاريخية وتصورها، فإننا مع الجهد البحثي المتتابع، نقترب من الحقيقة الموضوعية ومن الصواب فيها كلما تكشفت لنا زاوية جديدة للرؤية، وتكون مع الوقت أقدر على تكوين الصورة الأكثر تجسيدا للواقع التاريخي من زواياه المختلفة، ولكن يمكن الزعم أن هذا الاقتراب اقتراب غير نهائي.
ويمكن القول بأن من الوقائع ما يثبت يقينا فور حدوثه كاشتعال حرب أو احتلال بلد، ومنها ما يصل بعد وقت قصر أو طال، وبعد محاولات تأريخية قلت أو كثرت، يصل إلى حد يقين في الثبوت. وهنا لا مجال لأن يكون لذات الباحث أثر في ثبوت أو نفي، وثمة أحداث أو عمليات تأريخية أقل وضوحا أو أكثر تداخلا وتعقيدا. ويرد التحقيق المستمر في أمرها بما يحيلها مع الوقت من خلال تكشف المادة التاريخية، ومن خلال اختلاف المؤرخين وجهودهم يحيلها إلى قدر من الثبوت أو النفي لرجحان الظن في تصورها. وهنا يتوالى الإضعاف للأثر الذاتي لينحصر في أضيق نطاق. هذا من حيث ثبوت الحدث.
والأمر الثاني فإن التتالي والتداعي للأحداث التاريخية، وهو أمر أبعد نسبيا عن التأثر بالعنصر الذاتي، يفيد بنفسه إدراكا للروابط بين الأحداث عللا وآثارا. وبعد ثبوت الحدث، فإن تتالي الأحداث الثابتة يعتبر من أهم المحكات التي يختبر بها عمل الباحث، والصواب والخطأ في تركيب الصورة أو العملية التأريخية.
ويلاحظ في هذا الشأن، وبالنظر إلى المراحل الخمس لعملية التأريخ ووسائل تأثير العنصر الذاتي في كل منها، يلاحظ أن هذا العنصر ليس من شأنه أن يرد بذات النسبة في كل من تلك المراحل. ويبدو لكاتب هذه السطور، أنه يرد أقوى ما يكون في المرحلة الأولى، الخاصة باختيار الموضوع المبحوث، ثم في المرحلة الرابعة الخاصة باستخلاص دلالة كل حدث ومعناه، وهو يبدو أضعف ما يكون في المرحلتين الثانية والثالثة الخاصتين بجمع المادة وتحقيقها، ثم هو يبدو في المرحلة الخامسة متراوحاً بين القوة والضعف، حسب إمكانات الباحثين ومدى قدرتهم على التفاعل مع المادة التاريخية المجموعة والمحققة.
ولكن حتى مع إمكان نفوذ الباحث على مادته في تلك المرحلة الأخيرة من خلال تركيب الأحداث وصياغة العملية التأريخية في تشابكها، فإن صنيعه هذا يكون محكوما بالمادة مراقبا بوساطتها، ويصير عمله قابلا للاختيار الموضوعي، في ضوء ما جمع وما لم يجمع، وما حقق وما لم يحقق، وفي ضوء تتالي الأحداث وتسلسلها، وفي ضوء المعقول والمقبول مما يفيده هذا التتالي والتداعي من إدراك أواصر العلل والمعلولات، فللعنصر الذاتي في العملية التأريخية دور لا كشف فيه ولا يمكن تجنبه. ولكنه دور يرد في نطاق محدد منها، ويمكن تحقيقه وتحديده والحكم عليه بالصواب والخطأ الموضوعين.
وليكون الباحث أكثر حذرا في فرض مسلماته على المادة التاريخية، وحتى يتفادى بقدر الإمكان فرض أحكامه المسبقة عليها، فعليه أن يجتهد في تحويل مسلماته إلى تساؤلات وهو يتعامل مع مادته، وأن ينظر فيما تجيب به المادة عليها، وأن يراقب ميولها ويوليها المزيد من الجهد في التحقيق فإذا كان يميل إلى القول بأن جهة معينة هي من حرص على حرق القاهرة مثلا، فعليه أن يفطن إلى هذا الميل ويولي هذه النقطة المزيد من التحقيق، كما لو أن الثبوت يجري على رغمه. وإذا كان يسلم بأن الاقتصاد هو محرك التاريخ، فعليه وهو يتعامل مع مادته في فترة معينة وبأحداث محددة أن يضع لفظ "هل" قبل هذه المسلمة، فإذا لم تجب المادة المحققة عن سؤاله بالإيجاب، فعليه أن يسلك واحدا من طريقين، إما أ، يعود إلى مادته يستكملها، وإما أن يعيد النظر في مسلمته. وقد تكون صيغته عن هذه المسلمة مما يحتاج – مع بقاء صحتها – إلى ضوابط أو تحفظات أو شروط لإعمالها، أو استثناءات عليها لتداخل عوامل أخرى. وقد تكو مما يثبت بالعمل الأوسع الأشمل عدم حجيتها كلها فتطرح كلية.
بمعنى أنه يجب على الباحث أن يدرس نفسه، وأن يراجع مفاهيمه ومسلماته، وهو يدرس مادته. وهذا مفاد ما ورد في صدر هذه النقطة من أن علاقة المؤرخ بمادته التاريخية هي علاقة حوار، ويتكيف الاثنان معا من خلالها.
إن كاتب التاريخ في حدود قدرته على المتابعة يمكن أن تتغير بعض وجهات نظره في فهم الأحداث وتقويم التيارات والاتجاهات وبهذا فإن العملية التأريخية واقع يحتمل التغيير من طرفيه؛ من حيث المادة التاريخية وهي صلب العمل التأريخي، ومن حيث فهم المادة التاريخية وتصنيفها وتقويمها وتركيبها، وهي مهمة الكاتب.
فكرت في الأمر طويلا، مما تراخى بسببه شروعي في إعادة النشر. كنت بين أن أنشره كما هو فحسب، وبين أن أعيد النظر فيه، ولم أشأ أن أتبع المسلك الأول؛ لأن في النشر معنى الإفصاح عن موقف أو رأي، وإعادة النشر تعني إفصاحا جديدا وفيها معنى الرغبة في تكرار الجهر يقول ما، وعلى المجاهر أن يكون على اطمئنان من رجحان الصواب فيما يجهر به من قول يبدأه أو يعيده. والكتاب منسوب لصاحبه وعلى الكاتب مسئولية ما يرد به. وما دام لكلمته أثر في قارئ أو سامع يتلقى، فعليه تبعة ذلك.
ولم أشأ أيضا اتباع المسلك الثاني بتعديل متن الكتاب بالحذف وبالإضافة لأني بهذا التعديل أكون قد حدثت قارئ اليوم بغير ما حدثت به قارئ الأمس. أكون أخفيت – طمست – رأيا لي سلف، ولا عصمة لبشر بطبيعة الحال. ولا تثريب على مخطئ، متى اجتهد ولم يأل جهدا، ومتى عدل فور تيقنه من أن ثمة صوابا مخالفا، على أن تبعة خطأ المخطئ لا يرفعها كاملة محض العدول، ولكن أسلوب العدول أيضا بأن يرد التصويب من جنس الخطأ جهرة، وأن يكون مصحوبا ببيان وجه الخطأ وفيم العدول وسببه. ينبغي دراسة النفس مع دراسة الموضوع جهرة أمام الناس.
سلكت طريقا ثالثا، بنيته على عدد من الاعتبارات، فالكتاب في جملته من حيث المادة ومن حيث التقويم صالح عندي، أحتمل تبعته وأواجه عنه المسئولية أمام القارئ, وما جد الكشف عنه من مادة تاريخية، لا أراه يغاير من البناء التأريخي المركب في هذا الكتاب. وإن كنت أعرف أهميتها لو أضيفت في إغنائه أو في التحفظ على بعض تفصيلاته ولكن السعي لمراعاة هذين: الإغناء والتحفظ، وإدخالهما على متن الكتاب، قد يؤدي إلى ضررين: إفساد المعمار العام الذي قام عليه تركيب المادة التاريخية بكثرة الحشو، وتقدير أن أية إضافة أو حشو، هي في ذاتها وعلى يد كاتبها تفيد عملا تأريخيا جديدا، كبر هذا العمل أو ضؤل. فيها جمع لمادة وتحقيق لها وبيان لمغزاها، وفيها تركيب لها أو إدخال لها على التركيب العام. في هذه النقطة أو تلك، وفي كل ذلك عنصر انتقاء وعنصر تقويم قد يتأثر بذاتية الكاتب الآن. وبهذا يضاف إلى البعدين الزمنيين للعمل التأريخي، بعد ثالث، أو لمحات وشذرات من زمن ثالث، بهمومه وشواغله وبمفاهيم الكاتب عنه. بهذا تنماع العناصر وتختلط، وتفسد على القارئ قدرته في تحليل العمل وكاتبه، ونقد الكتاب مادة وتقويما هذا من جهة الكتاب.
أما من جهة الكاتب ووجهته وتقويمه للوقائع، وأثره في تركيب المادة حسبما بدا له التكوين الأكثر موضوعية في ربط الأحداث، فليس لدي ما يخل بالصورة العامة "للحركة السياسية في مصر 1945/1952" إلا من ثلاث وجهات سترد الإشارة إليها بإذن الله بعد قليل. وقد اخترت بشأنها ألا أقتحم متن الكتاب، بل أبقيه على وضعه ونصه، لأني لا أتصور اليوم أنه ينتمي لي وحدي. لقد ظل محضونا مني حتى نشر، فانفصل ولم يعد ملكا لي، وظل بعيدا عن الناس حتى قرئ، فاتصل بمن قرأ وصارت لقارئه يد عليه. وبهذين تميز الكتاب واستقل وصار موضوعا، ثم "يتفاعل" مستقلا في دائرة خارجة عن هيمنة كاتبه، هو كالابن يتصل بك نسبه، وينفصل عنك بالوجود الحي المتفاعل العلاقات والروابط بالآخرين. وبهذا لا أرى لنفسي حقا في تعديله. إنما لي في إطار صلة النسب بيني وبينه أن أوضح ما أراه يستدعي التوضيح وإذني بإعادة نشره يفيد تكرار قول منسوب لي، فتلزم الإشارة إلى حدود التبعة.
ومن جهة أخرى، فلست ممن يخفون موقفا فكريا أتحفظ عليه الآن، ولست ممن يجدون الحرج في الإفصاح الجهير عن العدول عن موقف أو رأي سابق، ظننته صوابا في وقت ثم تبينت الصواب في غيره، ولست ممن يستحسنون إخفاء أمر كهذا. وعلى مدى ثلاثين عاما لم يضع من فمي المذاق الحلو لكلمة الإمام الشافعي: "إني لأتدين بالرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق". قرأتها لأول مرة في صدر كتاب للدكتور محمد صالح شيخ أساتذة القانون التجاري بكلية الحقوق، رحمه الله. وغاب عني اليوم اسم الكتاب، ولكن بقي القول وصاحبه وراويه محفوظين.
لكل ذلك رأيت أن أبقي متن الكتاب على حاله، وأن أورد في هذه المقدمة المفصولة عن المتن المحددة في ظروف كتابتها وزمان تدوينها، أورد بها ما أراه حيويا من مراجعات تبدو لي الآن في نقد الكتاب. وقصرت الأمر على الحيوي من هذه المراجعات حتى لا أزحم القارئ بكثرة الإحالة والتحشية.
لعلي استطعت أن أوضح نظرتي إلى العلاقة بين المادة التاريخية والباحث، وإلى حدود العنصر الذاتي في العملية التأريخية، الذي ينعكس في الجانب التقويمي من العمل التأريخي، ولعلي أستطيع الآن – في كلمات قليلة – بيان هذا العنصر لدى مؤلف هذا الكتاب، في الفترة التي انشغل فيها بإعداده، أي بيان مجموعة الانتماءات الفكرية التي كانت تطبع نظرته وتقود وجهته. هذه الانتماءات قد يسميها البعض تحيزات؛ لاحتمال أن تميل بالباحث – واعيا أو غير واع – إلى جانب دون جانب من الأطراف التي تصنع الحدث التاريخي.
ومع الاعتراف بما قد ينجم عنها من ميل في تناول المادة التاريخية، ومع إدراك ما يلزم في البحث من النظر الموضوعي، الذي يتوخى التنقيب عن الحقائق الصارمة بغير تجاهل ولا إخفاء، مع كل ذلك فإنه يتعين أيضا إدراك أن التاريخ حركة ومسار، ونحن ننظر في أحداثه من خلال تصور ما لحركته، ومن خلال الاقتناع بمسار معين له، لا سيما أنه تاريخنا.
والباحث هنا يتعامل مع مادة لتاريخ يشعر أنه ينتمي إليه أو إلى وجهة فيه. ومحاولة نزع عنصر الانتماء من الباحث في تناوله لتاريخ قومه، هو جزء من عملية "تحييده"، أي عزله عن قضايا وطنه وشعبه، أي أن خلع الانتماء من الباحث يفيد خلع الباحث نفسه، وتلك لعبة لعبها معنا الاستعمار كثيرا من خلال مؤسساته العلمية، يسعى إلى تحييدنا في نشاطنا العلمي وغيره، عن أوطاننا وجماعتنا وعن مشاكلنا، وعندما يتم ذلك تكون قد اغتربنا عن ديارنا وأنفسنا ويسهل علينا التعبير عن ذاتنا الجماعية بالضمير "هم" بدلا من "نحن" كما نقول اليوم "أزمة الشرق الأوسط" وليست أزمتنا نحن المصريين والعرب مسلمين ومسيحيين. وهذه أحسم الخطوات التي يصير بعدها المثقف، إما مفكرا مرتزقا، أي محاربا بلا قضية ولا رسالة، وإما من خصيان المفكرين، أي مفكر بلا موقف. وما أكثر النمطين انتشارا بيننا.
على الجندي أن يكون موضوعيا بطبيعة الحال، ومعترفا بالحقائق إلى أقصى درجة، ودارسا كل ما يحيط به. ولكن إذا اشترطنا عليه في كل ذلك أن يطرح انتماءه؛ لأنه مجرد تحيز قد يخفي عنه الحقائق، إن فعلنا نكون قد حيدناه، أي أخفينا عنه أهم الحقائق. وهي: من هو؟ وما وجهته؟ نكون قد شرطنا عليه ليمسك بالسلاح، أن تسمل عيناه، وهما من الناحية القتالية نفسها أهم من السلاح في يده بطبيعة الحال. هذا السلاح الضرير سلاح أعزل، فاقد للوجهة والمنطلق.
انتماء مؤلف هذا الكتاب منذ تفتح إدراكه وحسه ووجدانه في الأربعينيات، هو لقضية الاستقلال الوطني، كان كذلك ولا يزال، ويدعو الله على ذلك حسن الختام، الاستقلال الوطني بأعمق معانيه وأشملها. ومع تدرج السن والإدراك زاد الأمر لديه عمقا وسعة، وتبلور على الموقف الاستقلالي عدد من الانتماءات: الديمقراطية، البناء الاقتصادي المستقل، الاشتراكية، الوحدة العربية، رفض التبعية لأية قوة خارجية: عسكرية، أو سياسية، أو اقتصادية. والديمقراطية قيمة شعبية سياسية، والاشتراكية قيمة شعبية اجتماعية، وهما من لوازم الاستقلال وحفظته، والعروبة هوية الاستقلال ولازمته وحافظته على النطاق الفسيح.
أثناء إعداد الكتاب قابلتني مشكلة تحديد معيار التقويم، الذي يؤثر في بناء المادة ويتأثر بها بالضرورة. كنت حذرا أن أفرض قناعاتي على مادة الدراسة وخشيت أن يكون تناولي للمادة التاريخية تناول من يحاكم التاريخ بمفاهيم ومواقف قد تكون جدت في مرحلة لاحقة. وكنت في الوقت نفسه لا أستطيع أن أتحيد حياد العزلة والانخلاع. فلست أجنبيا، ولا أستطيع ألا أبالي إزاء مادة تاريخية، هي أحداث تتعلق بوطن أشعر بانتماء شريف له، وانتماء جهير.
سهل على الأمر نسبيا من حيث الأصول التقويمية العامة، لأن الفترة المدروسة كادت أن تكون متصلة بالفترة التي أعدت فيها الدراسة، من حيث مجمل الوضع التاريخي العام وأوضاع الصراعات الدائرة وطبيعتها، فلم يثر لدي مشكل من مثل ما يثور لدى دارس التاريخ الوسيط، عندما يحاول دراسة الصراع بين الشيعة والعباسيين مثلا، أو بين المعتزلة والحنابلة.
ولكن وردت الصعوبة عند تقويم التيارات السياسية المختلفة، ولم يكن كلها أو بعضها قد امتزجت لدي وتكاملت عناصر ما أحسبه الأهداف السياسية الكلية لتلك الفترة، ووجب علي تذليل هذه الصعوبة، بقدر ما تتأتى للدارس نزعة الإنصاف بين التيارات المختلفة، وبقدر ما يحل المشكل بين المادة التاريخية ومفاهيم الباحث، حلا لا يخل بموضوعية التأريخ.
ساغ لدي حل المشكل بوضع معيار للتقويم على أساس تصور سياسي واقتصادي واجتماعي، تستمد كل عناصره من المادة التاريخية التي أخرجتها، فلا أضيف إلى هذا المعيار من عندي عنصرا ما (بقدر ما يمكنني الحذر والبعد عن الهوى). أي لا أضيف من زماني إلى زمان المادة شيئا، ولكن هذا المعيار الذي أقوم بتركيبه من المادة التاريخية وحدها قد لا يمثل بالطريقة التي صيغ بها وضعا قائما فعلا في الفترة المدروسة، فهو معيار واقعي وتاريخي في جزئياته، ولكنه قد يكون صوريا في تركيبه المتكامل.
وكانت حجتي مع نفس في ذلك أن ما يظن كونه هدفا أو فكرا أو موقفا صائبا في زمان الكاتب، لا يقوم معيارا تقوم به تيارات مرحلة لم ينطرح لديها هذا الهدف أو الفكر وجود وانطراح في الفترة المدروسة، فإنه يمكن إدخاله عنصرا في التقويم والتركيب؛ ففكرة العروبة مثلا، لا تقوم معيارا أو عنصرا تقويميا في زمان العرابيين، ولكن يمكن أن يظهر الاعتبار بها في مصر من الثلاثينيات، ثم إنها تنمو كعنصر تقويمي بمقدار نموها كهدف أو فكرة بعد ذلك.
ووفقا لهذا المنهج، بنيت معياري من التاريخ الوطني الديمقراطي للوفد، ومن تيارات التجديد في الوفد المصرة على انتمائها له ولشعبيته وعلى تطوير تراثه الوطني الديمقراطي في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية (أمثال الدكتور مندور وعزيز فهمي). ومن نزعة عدم التهادن الوطني الموجودة لدى الحزب الوطني. ومن نداءات الاشتراكية وإيضاح الدوافع الاقتصادية للسياسات المختلفة للتنظيمات الماركسية، ومن النزوع العربي وهذا المزيج الموفق من الوطنية والاشتراكية والدين حسبما تفتقت صحيفة "مصر الفتاة" في نهاية الأربعينيات، ومن القدرات التنظيمية والتوجهات الشعبية النضالية بدرجاتها المختلفة لدى هؤلاء، ومن دعوات الرشد والضبط لدى عناصر من غير الحزبيين تبحث عن إمكانات البناء الاقتصادي والسياسي المحكم الرشيد كالدكتور مندور، وبهذا المعيار التقويمي استقام في ظني ترشيد العنصر الذاتي، وكفالة قدر من الضبط الموضوعي لحركة هذا العنصر وأثره في تناول المادة التاريخية.
وثمة جانب آخر حاولت أن أكون على حذر منه، وهو الاستغراق في المادة التاريخية وتفاصيلها ونثرياتها. فقد يحدث أحيانا عند استخراج المادة التاريخية أن يطغى الركام الضخم لهذه المادة على الباحث، فينجذب إليها ليصير كما لو كان جزءا منها، ويخضع من حيث لا يعي لخضم التيارات المتفاعلة في الفترة المدروسة، وبهذا يسقط في مأزق "الصراع في التاريخ"، أي التعامل المباشر مع تياراته وصراعاته بظن أنه عنصر من مكوناته. هنا يتحول الباحث عن مهمته في "بحث" المادة التاريخية إلى القيام بدور في العملية التاريخية، أي ينتقل من العمل التأريخي إلى العمل في التاريخ.
يحدث ذلك خاصة عندما تكون الفترة المؤرخ لها قريبة من الباحث، وممتدة بمشاكلها وأفكارها وأهدافها وصراعاتها في زمانه، ومثال ذلك تلك الفترة عينها محل الدراسة في هذا الكتاب. كما يحدث عندما تكون المسألة المؤرخ لها ذات دلالة حية في خضم ما يشتعل به حاضر المؤرخ من مشاكل وصراعات، ومثال ذلك "اشتراكية" أبي ذر الغفاري أو "عقلانية" المعتزلة. في تلك الحالتين قد يتوحد الباحث مع مادته، وينزلق إلى موقف "حزبي" غارق في التعامل مع المادة كأنه طرف من أطرافها، وليس مراقبا أو محللا. إنه يشعر أن المسألة المدروسة تشكل جزءا من حاضره (ولعل ذلك ما أملي عليه أصل اختيارها للدراسة التاريخية) فيتحول هو إلى جزء من ماضيها. إنها جزء من مكونات "ذاته" العصرية، فيتحول هو إلى أن يصير جزءا من مكونات "الموضوع" المدروس.
وقد يجادل أو يصارع ويدافع، وقد يؤيد أو يهاجم ويخاصم، وقد يتحالف أيضا!!
وتوقي ذلك يوجب على الباحث أصلا وأولا، أن يتسلح بأكثر وأقصى ما يستطيع من إمكانات الفهم لأوضاع الفترة المدروسة ومشاكلها، ولعلاقات اتجاهاتها بعضها ببعض، وسياق أحداثها فيما آلت عنه وما تؤول إليه. كل ذلك بغية اكتشاف الوظائف المختلفة للأوضاع المختلفة والتيارات المتباينة والأفكار المتصارعة، أي يتعين على الباحث أن يدرك نسبة كل شيء إلى غيره من الأشياء ومكانة كل شيء من غيره، وذلك في الزمان المبحوث لا في زمان الباحث. أي يستبين خريطة الماضي والرسوم التصميمية لهياكل الحركة في السياق الماضي ولآليات العمل في ذلك الزمان.
وعلى سبيل المثال والاستطراد، يجري بعض مؤرخينا في الإسلاميات على تبني موقف المعتزلة ضد ابن حنبل، لما يرونه فيهم من عقلانية ورشد. وهذا موقف للمؤرخ قد تفهم دواعيه الحاضرة، ولكن لم أستطع وفقا لذلك التصور فهم ماهية العنصر السياسي والوظيفة الاجتماعية لموقف المعتزلة الفكري، وهو موقف لم يتخذوه كنظر فلسفي فقط، ولكن تبنته الدولة منذ عهد المأمون وفرضته بالقسر على الناس، وعاقبت ابن حنبل وغيره في ذلك، ثم إن ابن حنبل في موقفه ذلك كان أكثر شعبية وكان يمثل جمهور فقهاء السنة، ثم إن ابن حنبل أيضا هو من أثمرت شجرته أمثال ابن تيمية وابن القيم، وكانت شجرة المعتزلة شبه عقيم. فأين وظيفة الموقف الفكري في زمانه لا في زماننا؟
ومثال ذلك أيضا، فكر الصوفية وحركاتهم. يرفضه بعض مؤرخينا لسبب يتفق مع الذي يقبلون من أجله المعتزلة. ثم لا نفهم بذلك كيف كان الصوفية وحركاتهم من أهم ما احتضن الجماعات الشعبية على مدى من السنين ممدود. أين وظيفة الحركة في زمانها؟
ومثال ثالث، إلغاء تجارة الرقيق في السودان وفي إفريقية في القرن التاسع عشر. كيف تأتي أن يجري ذلك بدعوة من المصالح الأوروبية، وأن يتواكب مع أطماع بريطانيا في قارتنا. ماذا أريد بهذا الهدف النبيل (إلغاء تجارة الرقيق) على أيدي المستعمرين؟ وماذا أسفر عنه لصالحهم ولصالح أفريقية في السياق العيني الملموس. أين الوظيفة في استخدام حتى أنبل الشعارات؟
إدراك خريطة الزمان المدروس، ومكان كل فعل أو قول من غيره وأثره فيه، هو ما يمكن به أن يتوقى الباحث مخاطر التوحد مع المادة المدروسة وتوحد زمانه بزمانها. وفضلا عن ذلك، فعلى الباحث في ظني من ناحية أخرى أن يبتعد عن مادته بين الحين والحين ليكون أقدر على استبعاد النثريات التي لا تفيد في إدراك الوظائف المتبادلة، ولا في بناء الهيكل العام للفترة المدروسة وتحديد سياقها وقواها الدافعة والمحافظة، وكذلك استبعاد ما لا يفيد من الجوانب السلوكية الفردية، وما يلتبس من تلك السلوكيات بالعمل العام، مثلما يحدث من مناورات وغيرها. ومذبحة محمد علي للمماليك تعتبر مثلا قمة في السلوك الغادر المشين (وبالمناسبة نجد لها أمثلة عديدة في التاريخ الأوروبي الوسيط، وفي التاريخ الحديث بصور أكثر خفاء وإحكاما)، وإن امتعاض الباحث غير المتكور دوافعه من هذا المسلك، لا ينبغي أن يطمس قدرته على تبين ما أسفرت عنه الواقعة من آثار، قد يراها دافعة في السياق التاريخي، ووفق رؤية معينة له، لو أتت تلك الآثار بغير ذلك الطريق.
[1] في عملية التفسير القانوني تلاحظ تلك الصلة بين النص القانوني وهو "الموضوع"، وبين العنصر الذاتي بمعنى قريب من المعنى الوارد بالمتن، وهو يتضمن شواغل المفسر الآتية إليه من أحداث عنصره ومفاهيمه العامة. وتلك الصلة هي ما يرد منها سبب من أسباب اختلاف المفسرين في استخراج دلالات النص وفقهاء الشريعة الإسلامية مثلا يميزون بين ما يعتبر اختلاف حجة وبرهان، أي خلاف منشأه استخدام مناهج تحقيق صحة ورود النص ودلالاته المستخرجة من ألفاظه، وبين ما يعتبر اختلاف زمان ومكان، منشأه فهم النص في إطار الظروف المتغيرة، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال الوجود الموضوعي للنص وقيام المناهج الموضوعية في الفهم واستخلاص الدلالات. ولا ينفي إمكان الحكم على تفسير ما بالصواب والخطأ. وحركة المفسر ليست حركة طليقة من الضوابط في التحقق من ورود النص ومن دلالاته. ولكن الخلاف يرد من تطبيق النص على الوقائع المتغيرة زمانا ومكانا في إطار هامش يمكن ضبطه.