2011/05/14

القدس ليست برلين (ندوة) - المستشار طارق البشري

"القدس ليست برلين بعد الحرب العالمية الثانية التي أمكن لألمانيا أن تستبدل بها بون، كما أن القدس ليست إستانبول التي أمكن للدولة التركية أن تستعيض عنها بأنقرة". تلك كانت نقطة مفصلية في محاضرة ألقاها المستشار طارق البشري ضمن فعاليات ندوة "تنميتنا والخطاب الإنساني المشترك" التي نظمها مركز خالد الحسن للدراسات والأبحاث في الرباط يناير 2008.

وعلى الرغم من قدم المحاضرة تاريخيا، فإن أهمية استدعائها تكمن فيما تتضمنه من أفكار ورؤى جديرة بالإبراز في ذكرى النكبة التي منيت بها تلك المدينة المقدسة، وفلسطين عموما.

البشري حاول من خلال هذه المُسلّمة أن يؤكد على استحالة الاستبدال المكاني، وبالتالي الاستبدال الشعوري لهذه القضية، على الرغم من تقادم الزمن ودخول القضية عقدها السابع.
القدس أيضًا لها دور غريب وعجيب في التجميع.. على حد تعبير البشري، حيث هي مجمعة كل التيارات والقوى المختلفة، يمكن أن يختلفوا في كل شيء إلا عليها، فقد "جمعت العروبة والإسلام بغير تناقض أو تضاد بل بتناسقٍ وانسجام، فلا نجد تيارًا عربيًّا عروبيًّا تختلف نظرته للقدس عن تيار إسلامي ينطلق من مرجعية إسلامية، فهي مشترك إنساني بين مختلف التوجهات والتيارات...".

البشري كذلك لفت في محاضرته إلى ملمح غاية في الأهمية من خلال قراءة تاريخية لتغير أنظمة الحكم في المنطقة المحيطة بالقدس بعد سقوطها، وكأنه يخاطب الأنظمة بضرورة التعاطي مع القضية حفاظا على أمنها القومي المرتبط تحديدا بأمن القدس، فيقول: "أهم وظيفة تقوم بها -أي الحكومات- هو حفظ الأمن القومي للجماعة السياسية من الأخطار الخارجية، فلا يمكن الحفاظ على الأمن القومي للمنطقة المحيطة بها إلا بالحفاظ على أمن القدس.. ولعل الشاهد والدليل أنه عندما سقطت فلسطين 1948 تغيرت على أثر سقوطها جميع النظم المحيطة (بر الشام، مصر، الحجاز) بها على مدار أربع سنوات، حيث كان سقوطها حدثًا ذا تأثير حاسم على النظم الداخلية لهذه المنطقة، فأثرها السياسي والتاريخي على هذه المنطقة أثر حاسم، حتى عند سحب هذا القول على ما بعد 1967 نجده متحققًا، فهي أرض المعارك بالنسبة للمنطقة..".

المحاضرة إذن سياحة في التاريخ، ومحاولة لتجلية حقائق يجدر بنا فهمها فهما صحيحا.. ولذلك نترك القارئ مع نصها..


نص المحاضرة

القدس والمشترك الإنساني.. والحديث المشترك الإنساني له جوانب عديدة، وما يهمنا إزاء القدس المحتلة أن استقلالها هو ما يتحقق لها ولنا به التشارك الإنساني "المشترك الإنساني" وفي ظني أنه يقوم على "التعددية".. تعدد الكيانات السياسية، والجماعات السياسية، وتعدد التطوع إلى الكتل المختلفة والمصالح المتعددة.

وبهذا التعدد يتحقق التوازن الذي يمثل الضمان، والذي لا ضمان غيره، ويتحقق التشارك الإنساني، حيث لا يمكن ضمان تحقق عدالة أو تشارك أو سلام إلا بالتوازن بين القوى وتجمعات ومجموعات لا يستطيع إحداها نفي الأخرى، هذا هو التوازن الحميد الذي يتعين علينا تحقيقه.

ولعل تحقيق استقلال أي دولة من الدول التي لا تتمتع باستقلالها الكامل يمثل نوعًا من مساهمتها في هذا المشترك الإنساني العام الذي يترتب عليه تحقيق التوازن في العالم. فلن يكون هناك ضمان لأية مصالح مرعية إلا بتحقيق هذا التوازن.

ولن يكون ثمة سلام حقيقي إلا بإزالة الاعتداءات من دول على شعوب أخرى، إن الحرية والتشكل الذاتي للجماعات السياسية والاجتماعية والثقافية وحرمة ممارستها لمصالحها الذاتية هو ما نصبو إليه كنظامٍ لهذا العالم.


حي على القدس!

نتكلم عن القدس، ونجد أن "المشترك الإنساني" يدخلنا إلى صميم المشكل المتعلق بالقدس؛ وعندما نتكلم عن القدس أرجو توضيح مسألة: إن القدس ليست برلين بعد الحرب العالمية الثانية التي أمكن لألمانيا أن تستبدل بها بون، كما أن القدس ليست "إستانبول" التي أمكن للدولة التركية أن تستعيض عنها بأنقرة.

فالقدس هي القدس التي لا بديل عنها ولا مثيل لها، فهي متوحدة في طابعها وفي أوضاعها، فلا يمكن القول بأن هناك مكانًا آخر يصلح بديلًا عن القدس يستحيل.. هذه نقطة.

والنقطة الثانية: أن الوعاء الجغرافي للقدس هو فلسطين، ويستحيل أن نصور القدس بدون الكيان المسمى فلسطين، ويستحيل أن نتكلم عن القدس خارج هذا الإطار الذي قامت على أساسه وعاشت به وعشنا معها به على مدى زمني استمر قرونًا طويلة جدًا بقيت في أيدي العرب من أول التاريخ، فلا يمكن تصور القدس معزولة عن فلسطين، كما لا يمكن الحديث عن فلسطين معزولة عن إطارها العربي الكامل المحيط بها.

القدس أيضًا لها دور غريب وعجيب في التجميع (إنه دور مُجَمع) بين كل تيارات المجمع وقواه الاجتماعية والسياسية، فقد جمعت العروبة والإسلام بغير تناقض أو تضاد بل بتناسقٍ وانسجام، فلا نجد تيارًا عربيًّا عروبيًّا تختلف نظرته للقدس عن تيار إسلامي ينطلق من مرجعية إسلامية، فهي مشترك إنساني بين مختلف التوجهات والتيارات، وإذا نظرنا وراقبنا مجمل حركتنا السياسية والثقافية نجدها لا تشذ عن هذا الأمر.

كما جمعت القدس بين المسيحيين والمسلمين بتآلفٍ وتشارك تام أيضًا، وكان أهم مؤتمر منذ حوالي عشر سنوات حول الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي على المستوى العربي والشرق أوسطي وعقد في لبنان، وحمل عنوان "معًا من أجل القدس" وحضره ممثلو الأزهر والكنيسة القبطية وجميع ممثلي الكنائس الموجودة في المنطقة.

وجمعت بين أهل الدين وأهل الدنيا: حيث جمعت بين الوطنية الإسلامية والوطنية العلمانية في نفس الوقت وبنفس القدر ولا نجد فارقا في النظرة والاعتبار والمكانة المصونة للقدس بين توجه إسلامي أو توجه علماني في منطقتنا العربية.

هذه النواحي والوظائف الثلاث التي تقوم بها القدس لا نجد بديلًا يقوم بها عنها، فهي جامعة ومجمعة، فكما نقول "حي على الصلاة" للتجمع للصلاة (فالصلاة جامعة)، علينا أن نقول "حي على القدس" ليكون نداء لتجمع مختلف التوجهات والتيارات والمذاهب على أساسها كمشترك.


أمن الجماعة السياسية

كذلك هناك دور مهم جدًا قامت به القدس، حيث جمعت القدس بين الشعوب والحكومات، الشعوب باعتبار أنها تصبو إلى التحرر الكامل، حيث كانت القدس جزءًا من حركة الشعوب العربية ضد الاستعمار، والحكومات باعتبار أن أهم وظيفة تقوم بها هو حفظ الأمن القومي للجماعة السياسية من الأخطار الخارجية، فلا يمكن الحفاظ على الأمن القومي للمنطقة المحيطة بها إلا بالحفاظ على أمن القدس.

ولعل الشاهد والدليل أنه عندما سقطت فلسطين 1948 تغيرت على أثر سقوطها جميع النظم المحيطة (بر الشام، مصر، الحجاز) بها على مدار أربع سنوات، حيث كان سقوطها حدثًا ذا تأثير حاسم على النظم الداخلية لهذه المنطقة، فأثرها السياسي والتاريخي على هذه المنطقة أثر حاسم حتى عند سحب هذا القول على ما بعد 1967 نجده متحققًا، فهي أرض المعارك بالنسبة للمنطقة.

عندما كنت أقرأ عن القدس وجدت ما كتب عن قيمتها على جوانب عدة لا تقتصر على القيمة الدينية الروحية (أول القبلتين وثالث الحرمين، وأرض المحشر)، بل ظلت القدس ذاتَ قيمة إستراتيجية في المنطقة فهي "المدينة الثغر" الذي يمكن أن ينفذ منه العدو إلى الكعبة المشرفة وإلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان هناك عمق إستراتيجي ووحدة المصير دفاعيًّا وعسكريًّا.

إذن فالقدس لم تكتسب مكانتها وقدسيتها من الجهة الروحية والدينية فحسب بل كان الحرص عليها يجمع بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
النقطة المهمة أيضًا التي أريد أن أنتقل إليها في هذا الشأن هي قضية الاستقلال الوطني، هي قضية القرن العشرين بالنسبة للمنطقة العربية وكل دول العالم الثالث.

ولكن ما عناصر الاستقلال الوطني؟ فمنذ كنا صغارًا كان العنصر الأساسي هو "الاحتلال العسكري"، وإذا نظرنا إلى الظاهرة قبل الاحتلال العسكري ثم بعد جلائه، نجد أن الاستقلال هو كيفية حصار الإرادة الوطنية في أن تكون صاحبة القرار الحاسم في تقرير مصالحها وفي إدارة شئونها الخاصة.

إذن هي مسألة متعلقة بالإرادة السياسية أكثر من كونها متعلقة بوضع جغرافي أو إقليمي أو وجود عسكري، وهذا الأمر كان يمارس بعدد من الأساليب وليس الاحتلال العسكري فقط، ومن هذه الأساليب: ضغوط اقتصادية، أو حصار سياسي، أو تهديد للأمن القومي بشكل لا قبل لها بمقاومته، فتخضع إرادتها من على بعد، هذا كان ما يحدث قبل الاحتلال العسكري ثم بعده أيضًا.



إدارة الشأن الداخلي
 
وبربط قضية الاستقلال الوطني بقضية فلسطين، نجد أن قضية فلسطين لا تتعلق بفلسطين وحدها، حيث الاحتلال لا يقتصر على وجود جندي أجنبي على أرض معينة، بل يتعلق بمدى قدرتنا على إدارة الشأن الذاتي باستقلالية ووفقًا للصالح الذاتي الداخلي فقط.

في هذا الشأن، وعلى مدى التاريخ منذ قدماء المصريين ولليوم نجد أن مثلث: الشام، مصر، الحجاز، خطًا دفاعيًّا واحدًا. فما من دولة نشأت قوية أو أرادت الاستقلال إلا كان لابد لها من السيطرة على هذا المثلث، منذ الرسالة المحمدية في الحجاز وإنشاء الدولة، وكذلك ما قام به صلاح الدين، وقام به محمد علي، واليوم وفي إطار التجزؤ الحادث منذ عقود نجد أن أول ما صبت إليه الجامعة العربية لإنشاء وتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك، وظهور إسرائيل نفسه كان أساسه كسر هذا الثالوث، وعندما كسر استطاعت أن تؤتي الضغوط أكلها على المدى الزمني حتى الآن.

وهنا أود القول إن القضية الفلسطينية كان أول تجل وإثارة لها في الوجدان العربي الحديث على أثر حادث "حائط البراق"، لذلك نجد أن هذا الحدث العربي-الإسلامي المتعلق بالرغبة الإسرائيلية في السيطرة مقابل رد الفعل والمقاومة العربية– الإسلامية لهذا الأمر. وعليه، نجد أن أول ظهور للحركة العربية، عندما ظهرت في مصر ظهرت من داخل تيار الإسلاميين وليس من خارج هذا التيار، ربما استقلت عنه لاحقًا في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، لكنها بدأت من داخل التوجه الإسلامي، وهو ما يختلف عن نشوء الحركة القومية العربية في الشام مثلا.

فقد كان عنصر الحركة الوطنية المصرية: جلاء المستعمر، ووحدة أرض مصر والسودان (وادي النيل)، وفي تاريخ 2 نوفمبر 1945 بصدور "وعد بلفور" وجد المصريون أنفسهم يخرجون في مظاهرات لم يكن لهم قبل بها على مدار السنوات السابقة من نضالهم ضد المستعمر، واكتشفوا أن هناك عنصرًا وهدفًَا ثالثًا لا يمكن لهم تحقيق استقلال ووجود حركة وطنية بدونه، وهو: مقاومة وعد بلفور ونتائجه (قيام إسرائيل)، ولقد دخلت هذه النقطة في الضمير الوطني الجمعي ولم تخرج منه أبدًا، وإلى اليوم.

لا أريد الإطالة في الحديث عن هذا الأمر، ولكن ما أريد قوله: إنه منذ 1948 إلى اليوم إذا ما أحصينا ما حدث، نجد أنه خلال ستين عامًا شاهدنا وخضنا خلالها حروب (1948، 1956، 1967، 1973) ثم 1982 بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، والثورات داخل فلسطين: انتفاضتي 1987، 2000، حروب الخليج الثلاث: 1979، 1990، 2003، وحرب أفغانستان 2002، والعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، كل هذه الحروب دخلت فيها إسرائيل كطرف إما كامل في الحروب التي اشتركت فيها مباشرة، أو كطرف غير ظاهر اشتركت فيها بموجب التصاق سياستها بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية.


الحركة الفلسطينية

عندما ننظر إلى نشأة الحركة الفلسطينية، وإذا استرجع كل منا كيف تم تهجير وجلاء الفلسطينيين عن وطنهم وخروجهم لاجئين في بلاد أخرى، ومشهد المخيمات سواء داخل فلسطين أو خارجها، نجد تساؤلا: قامت البنية الأساسية للشعب الفلسطيني في إطار كل هذه الأحداث والجراحات العنيفة والتهجيرات الضخمة التي مروا بها؟! فلم تعد الأسر مع بعضها البعض ولا القرى ولا أصحاب الحرف وغيرها من التكوينات الاجتماعية في فلسطين لم تعد بقدر التجمع والتجانس والاستقرار الذي يمكنها من إنشاء استمرار العلاقات الإنسانية.

وبالتالي ففي ظل مثل ذلك التدمير الشامل الذي عانته فلسطين لم يكن يُرجى أن تعود هذه التكوينات الاجتماعية إلا في غضون مدى زمني لا يقل عن عشر سنوات، وهذا ما حدث، حيث بدأت هذه التكوينات ضعيفة في البداية ثم ظهرت العلاقات وبدأت تقوى وتترابط شيئًا فشيئًا على مدى زمني طويل.

لذلك، لا نجد الحس الفلسطيني قائمًا بوضوح في تلك الفترة؛ حيث كان الشعب الفلسطيني يعيد تشكيله الذاتي في صورة هيئات ومؤسسات وتنظيمات اجتماعية من جديد، حتى يتسنى له القيام بأي حركة. وفي تلك الفترة كانت الدول والحكومات العربية المحيطة هي ما استقل بتقدير الشعب الفلسطيني بموجب دفاعها عن أمنها القومي.

وهنا نتعرض لمشكلة وإشكالية تتعلق بالدول وتكونها في دول العالم الثالث بصفة عامة: فبينما تقوم الدولة بوظيفة أساسية أولى وهي حفظ الأمن القومي للجماعة السياسية التي تحكمها (وهو أمر استقر عبر التاريخ)، هذه واحدة.

الهدف والوظيفة الأساسية الثانية لأي دولة هو: تحقيق قدر من التناسق والتوازن والتماسك الداخلي بين التجمعات البشرية داخل هذه الجماعة السياسية

والهدف والوظيفة الثالثة للدولة هي: إدارة هذه الجماعة في شأنها اليومي وفيه حفظ الأمن القومي.

إذا ما نظرنا إلى مسألة حفظ الأمن القومي –على مستوى العالم الثالث ككل- نجد أن كل المخاطر الخارجية الأساسية التي تأتي على الدولة المحددة تأتي من قبل دول كبيرة ذات عدة قوية جدًا حيث لا قِبَل لحكومات العالم الثالث بمقاومتها عن طريق التنظيم العادي والجيوش النظامية.


الصراع بين الوجود والمصلحة

فلا نجد أي ثورة تحرير ضد خطر أو احتلال أجنبي يقوم بها جيش نظامي، بل جميعها تقوم عن طريق حركات الشعبية، حيث الشعب يدافع عن وجوده بينما العدو الخارجي أو المحتل يدافع عن مصالحه، والدفاع عن الوجود أطول نفسًا من الدفاع عن المصلحة؛ لأن المحتل إن لم يحقق مصالحه فإنه سيضطر للانسحاب، وبالتالي تنتصر الإرادة الشعبية المدافعة عن وجودها عن طريق سلاحها الأساسي ألا وهو الكثرة البشرية، حيث المقاوم يضحي بروحه من أجل وجود وطنه.

وهذا ما نراه الآن في أفغانستان وفي العراق فضلا عن فلسطين، مما يؤكد أن الحركات الشعبية هي صاحبة القدرة على أن تفل قدرة وقوة الاكتساح والاحتلال الأجنبي.

معنى ذلك، أن تحقيق الدفاع عن الأمن القومي، وهو أهم وأول وظائف الدولة، تعجز عنه الدولة في بلادنا في العالم الثالث حتى بموجب الضرورة، ولا نكاد نجد استثناءً عن ذلك إلا في حالات: الهند، والصين، ومن ثم، فلابد لدول العالم الثالث أن توجد داخلها حركات شعبية قوية لتكون مستعدة ومؤهلة للقيام بوظيفة الدفاع عن الأمن القومي ضد الخطر الخارجي التي تعجز عنه دولنا.

وهنا الأمر يتعلق بإشكالية الوظيفة الأساسية للدولة القطرية (في الكثير من بلدان العالم الثالث في وقتنا الراهن) وبين الحركات الشعبية، ودعوني أطرح هذه القضية كسؤال مشكل وكقضية لا ترتبط بدولة محددة بل هي ظاهرة عامة حيث إننا لا نستطيع أن نطالب أي دولة من دولنا في العالم الثالث بمواجهة كل ذلك العتاد والقوى الخارجية الكبرى التي تهددها.

فإذا ما عرضنا مثالا مثل حالة جنوب السودان نجد أن القوى الكبرى تقوم بتزويد حركات الانفصال بالسلاح مما يمنع قدرة الدولة على المواجهة النظامية لهذا الأمر. إذن كيف يمكن القيام بهذا الواجب (الحفاظ والدفاع عن الأمن القومي) الذي لا تستطيع الدولة القطرية الوفاء به في خبرة الدول حديثة الاستقلال والنشأة في العصر الحديث إلا في استثناء لا يقاس عليه في خبرتي الهند والصين كما ذكرت.

فدولة كباكستان التي امتلكت سلاحًا نوويًّا لم تستطع إلا الاستجابة لطلب الولايات المتحدة استخدام قواعدها العسكرية في حربها على أفغانستان 2002، على الرغم أن هذا الأمر يتعلق بأمنها القومي والتي كم سعت ورغبت في وجود أجواء هادئة في الداخل الأفغاني المؤثر بشدة في أمنها القومي؛ حيث وجود حدود طويلة (آلاف الكليومترات) مع أفغانستان (فحالة أهمية أفغانستان بالنسبة لأمن باكستان القومي أشبه ما تكون بأهمية فلسطين بالنسبة للأمن القومي المصري)، ومع ذلك انهارت الإرادة السياسية لباكستان حينئذ بسبب رغبتها في الحفاظ على سلاحها النووي حتى لا تدمره الولايات المتحدة.

وبالتالي صارت بكل أسف "تحمي السلاح بدلا من أن يحميها السلاح!" وأصبحت تتنازل عن إرادتها السياسية حمايةً للسلاح، وكأن السلاح وبال عليها، وهذا ليس سخرية مني عند الوصف، بل هو وصف مجسد للمحنة التي تعاني منها الدولة القطرية فيما يخص إشكالية الأمن القومي وكيف يمكن علاجها.

في هذا السياق، أتذكر حدثًا تاريخيًّا مصريًّا: عندما وصل سعد زغلول للحكم بعد فوز الوفد في الانتخابات في أول انتخابات برلمانية عام 1924 باكتساح 94%.إذا به يشعر بأن الوصول للحكم "محنة" وكنا في مرحلة الشباب نفسر ذلك بأنه نقص في الثورية عند سعد زغلول، لكنه لم يكن كذلك، بل كان إشكالية صعبة، وبالتالي نجد أنه استقال من الوزارة بعد عشرة أشهر حتى يُخرج نفسه من هذه المحنة، فالحكم (لاسيما للقوى الثورية) كالقلعة إما أن تستخدمها أو أن تحبسك! وبالتالي على الحاكم أن يعي كيف يستخدمها وإلا فسيجد الحكم سجنًا له.

ذكرت أن القدس بدورها الجامع والتجميعي لكل من المسلمين والمسيحيين، أهل الدنيا وأهل الدين (أي الدينيين أو الإسلاميين والعلمانيين)، لكن إشكالية علاقة الدولة بالأمة في بلادنا مازالت قائمة، ونجد أمثلةً قليلة من بلداننا استطاعت ولو لفترة قصيرة، التغلب على هذه الإشكالية (مثال: لبنان في بعض الفترات بإخراجها قوات إسرائيل من أرضها عام 2000).

وقد كانت حالة فلسطين وحالة لبنان من الأمثلة المهمة أن أستعرضها في هذا السياق، أو كما يقولون: "المرء بأصغريه"، حيث استطاعت لبنان إنجاز التوافق بين الحركات الشعبية والدولة عام 2002، كما استطاعت فلسطين لفترات طويلة إنجاز هذا التوافق والائتلاف المكون بين فصائلها. لكن يبدو أنهم لا يريدون أن يتركوا لنا هذين الأصغرين كمثلين نتبعهما، وعلينا أن نكافح من أجل بقائهما وبقاء هذا المثل..

وشكرًا لحضراتكم