لا يزال البعض يعتقد أنه يمكن القيام بحملة إعلامية بحيث يمكن إيجاد أصدقاء في الغرب، وفي أمريكا بشكل خاص، من أجل الوقوف إلى جانب قضايانا العربية والإسلامية والإنسانية العادلة. وأعتقد أن هذا رهان صعب. وابتداءً يجب أن نشير إلى أن إيجاد تفاعل وتعاطف في أوروبا أسهل منه في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الإنسان الأوروبي يتميز بقدر كبير من الثقافة والوعي. والصحف الأوروبية تنشر أخبارا عن العالم وتطوراته بشكل أكبر مما تنشره نظيراتها في الولايات المتحدة إلى حد ما، إلى جانب وجود اختلافات سياسية حقيقية بين الأحزاب التي تقوم بتوعية المواطنين. لكن مهمة خلق التفاعل والتعاطف، حتى داخل الولايات المتحدة، ليست مستحيلة. خذ على سبيل المثال ما حدث في الحرب الأمريكية على فيتنام، حيث كانت الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي تؤيد في البداية التدخل الأمريكي في فيتنام، تحت ذريعة وقف ما سموه آنذاك بـ "الخطر الشيوعي"! وبالتدريج، ومع وصول جثامين من الجنود الأمريكيين إلى التراب الأمريكي، ومع تزايد الخسائر الأمريكية المادية، بدأت الجماهير الأمريكية تتراجع عن موقفها السابق وتخرج إلى الشوارع مطالبة الإدارة الأمريكية بسحب قواتها من فيتنام، إلى أن اضطرت الولايات المتحدة لسحب جيوشها وقوتها العسكرية من فيتنام وأن تنسحب صاغرة! ولنلاحظ أن الفيتناميين كانوا يقاتلون ويتفاوضون في ذات الوقت، وكانت الحركات المعادية للحرب في الولايات المتحدة تقوم بعملية توعية بما يحدث من خلال الإعلام. وقد طورت مصطلح "الحوار المسلح" الذي ينطلق من تصور أن الشعوب التي تدور في إطار علماني مادي استهلاكي لا تدرك العالم إلا بحواسها الخمس، ولذا فهي شعوب وثنية لا عقلانية لا يمكن إيقاظها من خلال الإعلام وحده، كما يتصور البعض، وإنما من خلال سياسة متكاملة فنبعث لهم رسائل مسلحة عن طريق المقاومة المسلحة المستمرة، ورسائل شبه مسلحة مثل التلويح بقطع البترول ونقل رؤس الأموال العربية. وتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، ومنع مرور السفن الحربية من قناة السويس. لكن لابد وأن يواكب هذا رسائل توضح وجهة نظرنا، مضمونها أنه يمكن للشعب الأمريكي التعايش معنا إذ لا يوجد مبرر للصراع أو للمواجهة المسلحة، إذ يمكن توظيف رؤوس الأموال الأمريكية في العالم العربي واستيراد السلع من الولايات المتحدة على أن يتم ذلك في إطار من التبادل العادل، كما يجب أن نؤكد أن المواجهة المسلحة لن تفيد إلا الاحتكارات والشركات الكبرى ومصانع السلاح والدولة الصهيونية.
وكما أسلفت المواجهة مع الولايات المتحدة أصبحت صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، بمعنى أن العرب لو قرروا ضرب مجموعة من السلع الأمريكية بعدم شرائها فإن أصحاب المصانع المنتجة لهذه السلع سيتحولون إلى "لوبي" يعمل لصالحنا. ويمكن استبدال هذه السلع بسلع يتم استيرادها من فرنسا أو ألمانيا أو اليابان أو الصين أو الهند، أو ربما تشجيع بعض رؤوس الأموال العربية على تصنيعها محليا. أما الثروات العربية في المصارف الأمريكية والتي تقدر حسب ما سمعت بـ 700 بليون دولار، مما يمثل دعما قويا للدولار الأمريكي، فيمكن سحب 10% من هذه الأموال في إشارة واضحة للغضب العربي والإسلامي، كما يمكن الاكتفاء بالتلويح بذلك، هذه كلها رسائل للشعب الأمريكي أن يعيد النظر في مواقف حكومته المتحيزة ضد العرب.
والمواجهة لابد أن تتم على مستوى شعبي أو حكومي، فإذا كانت الحكومات غير قادرة على المواجهة، فيمكن أن تقوم بها الجمعيات المدنية. ولكن يجب أن نتذكر وأن نذكِّر أنفسنا أن انسحاب أمريكا من العراق سيكون له أعمق الأثر عليها، فالحلم الإمبراطوري سوف ينتهي وسيؤثر هذا على إسرائيل التي عاشت دوما في داخل إطار الحرب: الحرب الباردة، ثم الحرب ضد الشيوعية، ثم الحرب ضد القومية العربية، ثم الحرب على الإرهاب، فإذا انكمشت الولايات المتحدة الأمريكية وطورت سياسة خارجية جديدة غير مبنية على التدخل في شئون الآخرين ولا تحاول الهيمنة على العالم، فإن إسرائيل سوف تجد نفسها في أزمة حقيقية، فمقومات وجودها ستتلاشى. أقول إنها مسألة صعبة للغاية ولكنها مع هذا ليست مستحيلة. ويجب أن نتذكر أنه بوسع الولايات المتحدة أن تحاول الهيمنة عن طريق توقيع اتفاقيات مع بعض الحكومات "الصديقة" وإنشاء قواعد عسكرية فيها، أي أن التغيير لن يكون حقيقياً، فهو تغيير في الآلية وليس في الهدف النهائي.
وعادة ما يميز الخطاب العربي ( وحتى الإسلامي) بين الشعب الأمريكي والإدارة الأمريكية، بل ويقال بأننا مع الشعب الأمريكي وضد حكومته وآلته العسكرية. لكن هذا الشعب" الطيب" و"الفطري"، لا تستفزه ما تقترفه حكومته من جرائم في حق شعوب العالم، ولا يثور عليها، ولا يستعمل الآليات الديمقراطية كوسيلة لتنحية هذه الإدارة المعادية للإنسان، وهذا وضع غريب يحتاج للتفسير.
وأذهب إلى أنه قد حدث تقسيم للعمل في الولايات المتحدة بحيث تخصصت النخبة الحاكمة والحكومة الفيدرالية في مسائل الدفاع ومسائل الأمن والسياسة الخارجية، وتركت للجماهير كل الأمور الأخرى مثل المطافي والبريد والتعليم والرعاية الصحية ومدى نقاء مياه الشرب وبعض قضايا الأمن الداخلي مثل المرور وتزايد معدلات الحرارة، وكل ما يتخذ في هذا المجال يتم من خلال إجراءات ديموقراطية صارمة. أما القرارات السياسية الكبرى (السياسة الخارجية- ميزانية الدفاع- ميزانية المخابرات) التي تحدد مصير الأمة، فقد تُركت للنخبة الحاكمة (التي تسيطر عليها المصالح الصناعية والعسكرية) تفعل فيها ما تشاء حسب أولوياتها وحسب ما تمليه مصالحها وليس مصالح الشعب الأمريكي.
وتعكس الصحافة الأمريكية هذا التقسيم للعمل، فالأخبار العالمية والتحليلات السياسية تنشر أساسا في جرائد ومجلات النخبة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست. أما الجرائد الشعبية والمحلية والـ tabloids التي تقرأها الجماهير، فهي تشير إلى "العالم" في نصف عمود، أما بقية الجرائد فهي تنشر الفضائح والأخبار الخاصة بالجماعة المحلية، والجزء الأكبر مخصص لأخبار النجوم وفضائحهم وللإعلانات والأوكازيونات وكوبونات الخصم وهكذا. (لا أنسى يوم 6 يونيه سنة 1967 حين نشرت الصحيفة المحلية في المدينة التي كنت أقطن فيها في الولايات المتحدة خبر اندلاع الحرب في بضعة سطور، أما الصفحة الأولى فكانت تحمل أخبارا عن افتتاح طريق جديد!). وجاء في إحصائية طريفة أن 24% فقط من الأمريكيين نجحوا في أن يذكروا اسم رئيسي جمهورية سابقين، بينما بلغ عدد الذين يعرفون أسماء الأقزام السبعة في قصة سنووايت 77%. ولذا من النادر أن تقابل أمريكياً يعرف آليات صنع القرار السياسي في بلاده، أو الهدف من القرارات التي اتخذت في مجال السياسة الخارجية. وفي غياب أحزاب سياسية لها برامج مختلفة توعي المواطن وتثقفه سياسيا، يقع هذا المواطن الأمريكي العادي فريسة سهلة للإعلام ولتقسيم العمل الذي فُرض عليه وجعله غير قادر على فهم سياسة بلده الخارجية وتدخلها العسكري في كل أرجاء المعمورة، خاصة وأنه يتم تبرير عمليات الغزو العسكري والتدخل السياسي في شئون الدول الأخرى من خلال خطاب عالي النبرة ممتزج بلون قومي أمريكي فاقع له أبعاد أخلاقية، فيتحدثون عن "القيم الأمريكية" مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأمن القومي الأمريكي. كما أنهم يلجأون لتخويف المواطن الأمريكي، من عدو ما، كان في مرحلة من المراحل هو الشيوعية وأصبح الآن الإرهاب الإسلامي! ورسّخوا في وجدانه أن هذا العدو يكره الديموقراطية ويحقد على الأمريكيين بسبب أسلوب حياتهم ومعدلات الاستهلاك العالية التي يتمتعون بها، ولذلك عادة ما تبدأ الاحتجاجات على سياسة أمريكا الخارجية في الجامعات بين المثقفين الذين يدركون طبيعة الأكاذيب التي تطلقها النخبة الحاكمة. وتنتقل بعد فترة ليست بالقصيرة إلي الشوارع بين الجماهير العادية.
والله أعلم.