أذكر في سطور قلائل رأيي في جمال الدين الأفغاني، لوددت أن يكون علماء الدين علي صفته في عزة النفس وشموخ الأنف والتوكل علي الله،عندما ذهب إلي الآستانة طلب منه السلطان عبد الحميد أن يدع مهاجمة شاه إيران، وأنصت جمال الدين دون أن يرد، فلما طال إلحاح السلطان عليه قال منهيا الحديث : قد عفوت عنه .
وشده السلطان ، وذعرت الحاشية! قد عفوت عنه؟ العهد بعلماء الدين أن يكونوا مدفوعين بالباب ينتظرون الجدا ويشكرون الندا. فما بال هذا الرجل يناصي الملوك ويحاكم أخطائهم؟
قال المؤرخون : ما كان جمال الدين يري نفسه دون الخليفة .
وتذكرت وأنا أقرأ الحكاية بيتي الشريف الرضي، وهو يعاتب الخليفة العباسي في بغداد قائلا :
مهلا أمير المؤمنين فإننا في دوحة العلياء لا نتفرق !
إلا الخلافة ميزتك فإنني أنا عاطل منها وأنت مطوق!
هل هذا السمو خلق عميل للماسونية كما يقال؟ إنه خلق متوكل وثيق الصلة بربه، راسخ القدم في دينه، وما سمعت قبله ولا في عصره من كشف أحقاد الصليبية العالمية وألب الجماهير ضدها وشن الغارات شعواء علي المستبدين والظلمة، ونفخ من أنفته في الشعوب في الشعوب الراكدة المستعبدة يحضها علي العمل لدينها ودنياها، إن الرجل وحده كان صاحب هذا الصوت ويظهر أن تلك كانت جريمته .
قالوا : كان منتسبا لأحد المحافل الماسونية ، ولا أنفي هذا ، وإنما أسأل : في أي كتاب إسلامي شرحت آثام الماسونية وحذر المسلمون منها قبل عصر الأفغاني؟
إنه خدع بكلمات الإخاء والحرية والمساواة كما خدعت أمتنا اليوم في المؤسسات العالمية الكثيرة، والمهم أنه منذ ظهر إلي أن مات عليلا أو قتيلا لم يؤثر عنه إلا العمل علي استنهاض المسلمين وإحياء جامعتهم وحضارتهم ورسالتهم . . وذاك حسبه من الشرف .
أذكر أن بابا روما الأسبق مات عقب مرض ألم به فألف طبيبه الخاص رسالة لا أدري ما فيها عن حياته الخاصة، فصودرت الرسالة، وفصل الطبيب من النقابة، وانتهت حياته الاجتماعية ، وقد ألفت عشرات الكتب عن (نابليون) تنوه بأمجاده وتتواصي بالسكوت عن غدره وشذوذه وخسته .
القوم إن رأوا من عظائمهم خيرا أذاعوه وإن رأوا شرا دفنونه! أما نحن فمبدعون في تضخيم الآفات إن وجدت، واختلافها إن لم يكن لها وجود ، والنتيجة أنه لن يكون لنا تاريخ .
وقد نظرت إلي علماء الدين الذين تناولوا الأفغاني بالسوء فرأيتهم يحيون في إطار نظم تتبع الاستعمار الشرقي أو الغربي، وأنهم في مواجهته ومواجهة سماسرته خرجوا بالصمت عن لا ونعم .
إن الهيابين لا يجوز أن يشتموا الشجعان .
التعاون المثمر :
وأخيرا . . أريد أن أقترح تعاونا مثمرا بين مدرستي الأثر والرأي في ثقافتنا العربية، فإن استباحة أحد الفريقين للآخر وخيم العقبي علي أمتنا المنهكة المحاصرة .
أذكر وأنا طالب في المرحلة الإبتدائية أني قرأت للزمخشري هذين البيتين في شتم معارضيه من أهل السنة :
لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة
قد شبهوه بخلقه من جهلهم وتستروا في زعمهم (بالبلكفة)
ويظهر أن الرجل أحب أن يهين من فسقوه، فتناولهم بهذاالإقذاع وهو مخطئ لا ريب .
ربما تحمل المسلمون إبان ملكهم العريض، ودولتهم الكبري نتائج هذا الشطط، أما اليوم وهم كما قال الله في اليهود قديما :
"وقطعناهم في الأرض أمما، منهم الصالحون ومنهم مندون ذلك"
أما اليوم وهو غنائم باردة لما هب ودب فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم . . فجمع الشمل أولي والتلاقي علي أركان رسالتنا أهم من التخاصم علي سفساف الأمور .