أعود للتفكير بين الحين والآخر، فى أسباب التدهور الذى أصاب الخطاب الدينى فى مصر. فكلما قابلت مثلا من أمثلة التفسير اللا عقلانى للدين (أى تفسير لا يمكن أن يقبله العقل)، أدق أمثلة السلوك الذى يتناقض مع ظاهرة الورع مع باطنه اللا أخلاقى، أو التمسك بالشكل على حساب الجوهر،
وإبراء الثقة بالقيام بما يطلبه الدين من الشعائر المادية مع إهمال ما يطلبه الدين من فضائل الخلق، أعود إلى التساؤل: لماذا كان لدينا منذ أكثر من قرن من الزمان، داعية دينى عظيم هو الشيخ محمد عبده، كان يؤكد على العكس بالضبط، فيجعل اتباع المبادئ الأخلاقية التى يحض عليها الدين فى منزلة أعلى من القيام بالشعائر المادية، ولا يستطيع عصرنا هذا أن ينتج رجلا مثله، أو حتى يقاربه فى الحكمة والترفع عن الصغائر، وفى التفسير الرشيد للدين؟
عدت أقرأ فى بعض كتاباته فوجدت من بينها الفقرة التالية:
«إن المسلمين ضيّعوا دينهم، واشتغلوا بالألفاظ وخدمتها، وتركوا كل ما فيه من المحاسن والفضائل».. قالوا: «النية فى الصلاة، أن يقصد الإنسان فعل هذه الصلاة دون غيرها»، وفسّروا قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» بهذا. وإنما قصد الفعل عند مباشرته طبيعى، فإننى إذا قمت أمشى، لا أقصد بمشيى القعود.. وحاشى لله أن تفرض الشريعة الحكيمة هذا، وتجعل عليه مدار الأعمال والعبادات.. المراد بالنية فى الحديث، قصد المرء وغرضه من فعله، وهو إما وجه الله وابتغاء مرضاته «وهو النية الصحيحة» وإما غرض آخر كالرياء...» (الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، 1993، ص212).
تابعت القراءة، فإذا بى أجد فى كتابات الشيخ محمد عبده ومواقفه مثالا بعد آخر لقلة اهتمامه بالشكليات، ونفاذه مباشرة إلى ما يتعلق بالأخلاق. فالمهم عنده هو نظافة القلب قبل أى شىء آخر. قرأت مثلا حوارا طريفا دار بينه وبين تلميذه الموهوب الشيخ رشيد رضا، ويتعلق بحادثة زواج الشيخ على يوسف، وهى الحادثة التى شغلت الرأى العام بأسره فى مصر فى مطلع القرن الماضى.
كانت المشكلة أن الشيخ على يوسف، وهو رجل مرموق فى الصحافة والسياسة، وصاحب جريدة المؤيد، تزوج من صفية بنت الشيخ السادات، وكانت قد بلغت سن الرشد، ولكنها تزوجت دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على الزواج، ورفع قضية بطلب فسخ عقد الزواج على أساس عدم كفاءة الزوج للزوجة، إذ يدعى الأب أن ابنته مثله شريفة من نسل النبى، والزوج ليس كذلك.
صدر الحكم بفسخ عقد الزواج على أساس عدم كفاءة الزوج، ذهب الشيخ رشيد رضا إلى أستاذه الشيخ محمد عبده وقال له إن على يوسف «غاضب منك لاعتقاده انك السبب فى صدور هذا الحكم بعدم كفاءته، لأنك صديق للقاضى الذى أصدره». كان رد الشيخ محمد عبده: «أنت تعلم أننى موافق لك فيما كتبت (أى أنه يوافق على خطأ الحكم بالتفريق بين الزوجين على أساس عدم الكفاءة»... وأما رأيى فى الشيخ على والسادات، فى شخصهما، فهو أنهما كفؤان، لكن فى الخسّة لا فى الشرف!» (137).
لفت نظرى فى هذا الحديث ليس فقط هذه الجرأة من جانب الشيخ محمد عبده فى التعبير عما يعتقده، ولكن أيضا تجاوزه للأمور الشكلية ونفاذه مباشرة إلى التقييم الأخلاقى. فالمهم ليس نسبك أو أصلك، ولكن المهم هو أخلاقك.
تصادف أن قرأت فى نفس الأسبوع مقالا رائعا فى جريدة «الشروق» لأستاذ قدير هو الدكتور رشيد العنانى، أستاذ الأدب العربى فى جامعة إكستر البريطانية، وصاحب كتابين مهمين عن أدب نجيب محفوظ، حصلا على ثناء الأستاذ نجيب نفسه ورضاه.
كان موضوع المقال الكاتبة الشهيرة مى زيادة (1886 ــ 1941)، والتى وصفها بحق «بالكاتبة اللبنانية المصرية»، إذ إنها لبنانية مسيحية بحكم المولد، ومصرية بحكم المناخ الثقافى الذى تأثرت به وأثرت فيه كان هذا فى العقود الأولى من القرن الماضى، أى تلك الفترة الزاهرة من تاريخ مصر الثقافى والتى لمعت فيها أسماء مبهرة، منها الشيخ محمد عبده نفسه، ومنها قاسم أمين ولطفى السيد وطه حسين وعباس العقاد... إلخ.
كتب الدكتور العنانى هذا المقال بمناسبة ظهور كتاب (عن دار نوفل اللبنانية) بعنوان (مى زيادة كتابات منسية) ويقع المجلد فى نحو ألف صفحة، ويضم 170 مقالة للآنسة مى (وهو الاسم الذى اشتهرت به فى مصر)، نشرت لأول مرة فى مطبوعات مصرية كالأهرام والسياسة الأسبوعية، وقامت بجمعها باحثة ومستغربة ألمانية عكفت لمدة عشر سنوات على دراسة كل كلمة كتبتها مى زيادة أو كتبت عنها.
يقول الدكتور رشيد العنانى إن تصفح هذا المجلد أثار فى نفسه المواجع والأحزان، وبعض هذه الأحزان يرجع إلى المقارنة بين ما كان عليه الخطاب الدينى منذ مائة عام فى مصر، وما أصبح عليه الآن. ويقتطف هذه الفقرة الجميلة من مقال للآنسة مى عن العلاقة بين الطوائف الدينية:
«الدين أيها السادة والسيدات، لا أختاره أنا ولا تختارونه أنتم. إننا نولد فى دين من الأيان كما يولد الواحد منا أشقر أو أسمر، طويل القامة أو قصيرها. فما قولكم فى مقاتلة أشقر اللون لجاره لأنه حنطى البشرة، قاتم العينين؟ خصومة كهذه تضحكنا وتفكهنا. وليست الخصومات الدينية دون هذه فى التفكهة وإثارة الضحك عند العقلاء».
ثم تصف فى مقالة نشرت فى جريدة الأهرام (بتاريخ 24/6/1928) زيارة قامت بها لمسجدى الرفاعى وإبراهيم أغا، فاختلط فى سمعها، صوت الأذان، بصوت أجراس الكنيسة، فتقول:
«يا صوت المؤذن، يا صوت طفولتى، طالما أيقظتنى فى البكور وأشجيتنى عند العشية.. لقد كنت أول ما انطبع فى قلبى من آيات الطرب والجمال. فى الصباح والمساء كانت تنضم إليك النواقيس الشادية، تسبح هى من ناحيتها بحمد الذى تُعَظّم أنت اسمه من ناحيتك، فتمضيان على أجنحة النسيم معربين عن عاطفة واحدة وعبادة مُثلى: عبادة الذى لا يُعبد سواه».
سألت نفسى من جديد: ما سر التدهور الذى أصاب الخطاب الدينى خلال المائة عام الماضية؟ ولم أشعر بالارتياح إلا للتفسير الآتى: النمو المذهل فى إعداد أنصاف المتعلمين. كان الشيخ محمد عبده، وكذلك الآنسة مى، يكتبان فى مجتمع ينقسم إلى أقلية صغيرة جدا من المتعلمين (ولكنهم متعلمون تعليما راقيا)، وغالبية عظمى من الأميين (ولكنهم أميون يعرفون قدر أنفسهم)، لا مطامح لهم، وليس لديهم أيضا أى ادعاءات بغير الحقيقة).
كان أفراد هذه الأقلية الصغيرة المتعلمة تعليما راقيا، يخاطبون بعضهم البعض، فيتكلمون كلاما راقيا ومتحضرا، والباقون صامتون لا يحدثون ضجيجا ولا يشوشرون. الآن لدينا ملايين من أنصاف المتعلمين الذين يمارسون إرهابا لاشك فيه ضد المثقفين والأميين على السواء. وهم الذين يسيطرون الآن على الخطاب الدينى ويطبعونه بطابعهم.