2011/04/26

كم تدهورنا منذ الشيخ محمد عبده؟ - د. جلال أمين



كلنا يعرف مقام الشيخ محمد عبده، ولكن كم هو مفيد أن نعيد قراءته، والقراءة عنه، حتى ندرك كم تدهورنا منذ أن كان هذا الرجل العظيم يتزعم الخطاب الدينى فى بلادنا، أى منذ أكثر من قرن من الزمان.

كنت قد قرأت عنه وأنا فى مطلع الشباب، مثلما فعل كثيرون غيرى، ولكن محنة الخطاب الدينى التى تمر بها مصر اليوم، ومنذ زمن ليس بالقصير، جعلتنى أرغب فى قراءته والقراءة عنه من جديد، عسى أن أجد فيه السلوى عما نحن فيه، وكى أذكر نفسى بأننا لم نكن دائما على هذه الحال من الانحطاط.

وقد أتيحت لى فى الأسبوع الماضى فرصة قراءة كتابين صغيرين، أحدهما للشيخ محمد عبده واسمه «الإسلام بين العلم والمدينة»، والثانى كتاب كتبه الأستاذ عباس العقاد عن محمد عبده، كما أعدت قراءة فصل طويل كتبه الأستاذ أحمد أمين عن محمد عبده فى كتاب: «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث».


وأعترف للقارئ بأنه راعنى ما قرأت. نعم، كنت أعرف روعة هذا الرجل، ولكن أإلى هذه الدرجة؟ نعم كنت أشعر بدرجة تدهورنا منذ كان لدينا مثل هذا الرجل ولكن هل تدهورنا كان حقا بهذه الدرجة؟ بل والأكثر من ذلك: هل ترك الرجل شيئا مما يقلقنا فى هذه الأيام، ومما يعود إلى إقلاق راحتنا كل بضعة أيام، دون أن يتعرض له ويشرحه ويدلى فيه بالرأى القاطع والصحيح، كل هذا منذ أكثر من مائة عام؟

قرأت فى هذه الصفحات رأيه القاطع فى العلاقة الصحيحة بين المسلمين والأقباط، وفى موقف المسلم الحصيف من العلم والحضارة الغربية، وفى الموقف الإسلامى الصحيح من الموازنة بين التدين والتمتع بالحياة، وموقف الإسلام من الفنون، ووجدت فيها ردودا بليغة وحاسمة على من لا يكفون عن الهجوم على الإسلام وعن اتهام المسلمين بالإرهاب، كما وجدت فيها اهتماما بالغا بصيانة اللغة العربية وإدراكا لدورها فى إحداث النهضة المطلوبة... الخ.


قرأت كل هذا فى تلك الصفحات القليلة. ليس هذا فحسب بل ووجدته مشروحا بلغة رائعة بديعة، تستحق القراءة لذاتها بصرف النظر عن الموضوع الذى تعبر عنه، وبقوة وحماسة المؤمن تمام الإيمان بصحة ما يقول، الأمر الذى جعلنى أتساءل: هل تحتاج وزارة التربية والتعليم، وهى تبحث عن كتب جديدة تضعها فى أيدى الطلاب، إلى إطالة البحث ولديها وأمام عينيها كتابات الشيخ محمد عبده، البسيطة والواضحة، والتى يمكن أن يتعلم منها التلاميذ، ليس فقط كراهية التعصب وحب المختلفين عنهم فى الدين، وأهيمة البحث العلمى والابتكار، بل وتغرس فيهم أيضا حب اللغة العربية الجميلة؟، ومادام الأمر على هذا النحو، وبهذه البساطة، فهل معنى قعود وزارة التعليم عن هذا الأمر، أو عدم مرور مثل هذا الخاطر بأذهان المسئولين فيها أصلا، ان هؤلاء المسئولين عن التعليم عندنا لا يهمهم أن تحقق مصر أى نهضة على الإطلاق؟ وهل يريدون حقا مكافحة التعصب والقضاء على الفتنة الطائفية، أم أن الأمر كله تمثيل فى تمثيل؟

اقرأ ما كتبه الشيخ محمد عبده عن موقف الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام فى كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية» (طبعة دار المصرى للثقافة والنشر بدمشق، ص84 ــ 85) «أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه.. أين أنت من صلة المصاهرة بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمصاهرة على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح، الذى لم يعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينيين السابقين عليه؟».

أو اقرأ ما كتبه عن استسهال تكفير الناس، مما يثير الشجن عندما يتذكر المرء ما حدث فى عصر الانحلال الحالى لأستاذ مصرى جليل هو الدكتور نصر حامد أبوزيد، إذ حكم بتكفيره والتفريق بينه وبين زوجته لأنه دعا إلى تفسير النصوص الدينية تفسيرا يتفق مع العقل والعلم. فقد كتب الشيخ محمد عبده أنه مما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر. فهل رأيت تسامحا على أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحجة بحيث يقول قولا لا يحمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟« (نفس المرجع ص76 ــ 77).

أما تحكيم العقل فى تفسير النصوص، فقد اعتبره الشيخ محمد عبده أصلا من أصول الإسلام، فقال «اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا مما لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقى فى النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله فى علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.. فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟». (نفس المرجع ص76).

وللشيخ محمد عبده كلام جميل جدا ينفى اعتبار الدين كل الحياة، بل قال ان «أوامر الحنيفية السمحة ان كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رهبته، وتفعم أمله من رغبته، فهى مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه فى ترك اللذات ما فوق العادة. صاحب هذا الدين (صلى الله عليه وسلم) لم يقل (بع ما تملك واتبعنى) ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من مال (الثلث، والثلث كثير، انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).

سمعت مؤخرا من أستاذ من أساتذة كلية الفنون الجميلة فى مصر أن قسم النحت من أقل أقسام الكلية جذبا للطلاب بسبب تفسير أخذ يشيع بينهم بأنه حرام. فليقرأ هؤلاء ما اقتطفه الأستاذ العقاد من رأى الشيخ محمد عبده فى الفنون الجميلة أيام كان مفتيا للديار المصرية، وكتبه فى سنة 1903: «إن الرسم ضرب من الشعر الذى يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذى يسمع ولا يرى.. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص فى الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات فى المواقع المتنوعة، ما يستحق به أن يسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون الإنسان أو الحيوان فى حال الفرح والرضا، والطمأنينة والتسليم وهذه المعانى المدرجة فى هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر فى رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرا، باهرا.. فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم فى الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها».

فإذا اعترض أحد بالقول إن «فى الصورة مظنة العبادة» (أى أن الرسم والتمثال قد يوقع المرء فى الوثنية التى نهى عنها الدين) أجابه الشيخ محمد عبده: «إن لسانك أيضا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن تكذب؟». ويضيف إلى ذلك: «وبالجملة يغلب على ظنى أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من وجهة العقيدة ولا من وجهة العمل». (عباس العقاد: محمد عبده، ص264 ــ 266).

قد تظن أن رجلا كهذا، لا يمكن أن يكون له أتباع فى أوائل القرن العشرين إلا من الصفوة، أو صفوة الصفوة إذ كيف يتأتى لعامة الناس فهم وتقدير رجل بهذا العمل والتسامح واتساع الأفق؟ ولكن الحقيقة أن الرجل عندما مات فى سنة 1905، كانت جنازته جنازة شعبية بمعنى الكلمة، يصفها الأستاذ العقاد (المصدر السابق، ص254 ــ 255) بقوله: «لم يكن للمفتى الفقيد حزب ذو أداة منتظمة تسخر أعوانه لجمع الجموع وتسيير المواكب، بل كان صاحب السلطة الرسمية (أى الخديو) يعاديه ويغضب على مشيعيه.. وكان الصيف قائظا، والغائبون عن المدن من معتادى الاصطياف خارج القطر وفى قرى الريف أكثر من الحاضرين، فغلبت الصبغة القومية على كل صبغة رسمية أو تقليدية فى تشييع رفات المفتى إلى مقره الأخير من الإسكندرية إلى القاهرة فكانت موجة الحزن التى غشيت ألوف المشيعيين على طول الطريق دفته من أعماق القلوب والضمائر، عرفت بها الأمة مبلغ شعورها بعظمة الفقيد الراحل وعظم الخسارة بفقده.

وجاوز الزحام كل ما قدرته الشرطة واتخذت له حيطتها فى المدينتين من الصباح الباكر، قبل خروج النعش من داره، فتعطلت حركة الأسواق وأغلقت الدكاكين أبوابها للمشاركة فى موكب الجنازة، واكتظت الأرصفة بالواقفين والسائرين، ولم يبق أحد فى العاصمتين من ذوى الفكر والمنزلة لم يشترك فى ذلك الموقف الحافل..»، وذكرت صحيفة ليجيبت الصادرة بالفرنسية «يخيل إلى الرائى أن جميع سكان القاهرة الوطنيين قد حضروا آخر فريضة من الإجلال والإعظام لذلك الشيخ الجليل، وبينهم عدد عظيم من الأوروبيين».