2011/05/12

العلاقة مع الآخر.. إطار ومقدمات منهجية - طارق البشري

 

طال الحديث في السنوات الأخيرة عن موضوع اتخذ له عنواناً هو "العلاقة بالآخر" أو لفظ "الغير"، وهو يثور دائماً في صدد البحث في موقف "الإسلام" أو موقف الشعوب التي تدين به. أو في صدد الحركات السياسية التي توجد في هذه المنطقة الممتدّة من وسط آسيا إلى الساحل الغربي من إفريقيا. والمقصود ضمناً هو بحث علاقة هؤلاء بغيرهم.
ولم ألحظ أنّ المتحاورين أو الباحثين في هذا الأمر وقفوا عند لفظة "الآخر" أو "الغير" ليحدّدوا معناها وضوابط فهمها، برغم أنّ أول خطوات البحث العلمي تعريف ما يتكلّم الباحثون في شأنه. ونحن نعرف أنّ في لغة القانون والفقه عندما نتكلّم عن أثر أيّ علاقة قانونية على غير أطرافها إنما نتوقّف مباشرة للتعريف بمن يُقصد بـ"الغير" في هذا الشأن، لكي يكون الحديث عنهم إيجابياً ومبيّناً، فيقول مثلاً: إنّ "الغير هو من يخلف طرف العلاقة من بعده وارثاً كان أو مشترياً أو غير ذلك". وفي الموضوع المثار الآن لا نكاد نلحظ سعياً لضبط هذا "الآخر" أو التعريف به، أو تبيّن خصائصه، أو حتى الإشارة إلى ملامحه.
المقدمة الأولى: تعيين الآخر جلاء للذات وتقدير للآخر
القول بأنّ "الآخر" أو "الغير" هو غير المسلم أو غير شعوب معينة، هو قول بالغ العمومية والتجريد، حيث إنه تعميم بلا تخصيص وتجريد بلا توصيف. بل هو تعريف بطريق الاستبعاد والنفي وحدهما. ونحن لا نعرف من ذلك أيّة مظاهر تتّصل بهذا "الآخر" (الطرف المعرّف بالسالب)، لنستبين من ذلك أيّ تقدير لأيّ علاقة تكون نشأت معه. ونحن إذا جهلنا هذا الطرف "الآخر" نكون أيضاً قد جهلنا الطرف الأول؛ لأنّ التميز الوارد من أيّ وصف إنما يرد بالمقارنة بين المختلفين.
إنّ الآخر صار "شبحاً" بالتعريف السلبيّ له، وباستبعاد هذا التجهيل المطلق للآخر فإنّ الطرف الأول أو الذات أو الأنا يكون قد صار شبحاً هو الآخر؛ لأنّنا ندرك الخصائص بالمقارنة، والأنا لم يظهر منها إلا أنه غير الآخر. ولا يظهر وجه لسؤال سائل يقول: "ما هي علاقتك بمن ليس أنت؟" ومن ثم لا يظهر وجه للجواب عن سؤال يصاغ بهذا التجهيل. والحاصل أنّ الرابط الآخر قد يكون دينياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك ممّا لا يكاد يحصى من ضروب النشاط الإنساني. كما أنّه قد يكون أخاً أو رفيقاً أو زميلاً أو منافساً أو مخاصماً أو معادياً أو محارباً، وقد يكون ممن يرتبط مع "الأنا" بأي من روابط الانتماء المشترك أو يكون مبتوت الصلة بها، وغير ذلك من الاحتمالات. وأنّ العلاقة تختلف في مسارها ومنهج تناولها بالنظر إلى كلّ نوع من هؤلاء، وهي تدور مع الوصف الذي يلحق بأي منهم.

المقدمة الثانية: بين الحوار ودعوة الآخر للحاق بالذات
هناك فارق في ظنّي بين التوجّه لآخرين بالدعوة أو التوجّه إليهم بالحوار لاختلاف منهج التوجّه الدعوي عن منهج التوجّه الحواري، فالتوجّه الدعوي إما أنه يتجه إلى أهل الدين ذاته أو الفكرة ذاتها لتثبيت دعائمها لديهم وإبعاد الزيغ عنها لديهم، أو أنه يرد هجوماً وتشكيكاً في ثوابت فكرته وأصولها، أو أنه يدعو آخرين للاقتراب من فكرته وتفهّمها بقصد نزع فتيل خصومتهم لها أو استمالتهم إليها، استمالة تواد أو استمالة إقناع، وهنا فنحن نكون أمام مخاطبين بذواتهم نعرف ملامح مواقفهم الفكرية والعقدية ونتعامل معها بهدف الوصول إلى شيء مما سبق ذكره حسب نوع المخاطبين والمتحدّث إليهم. ونحن هنا أمام صاحب خطاب وأمام مخاطب، وصاحب الخطاب يتعرف على خصائص المخاطب ليتعامل معه، والأول منتج معطٍ والآخر يراد أن يكون مستهلكاً وآخذاً متلقّياً.
أما التوجّه الحواري فهو يجري بعلاقة ندية بين طرفين، ومن ثم يقوم على اعتراف كلّ من الطرفين بالطرف الآخر، أو على الأقلّ يكون في وضع الاستعداد للاعتراف به وتقبّل وجوده وبقائه، ولا حوار إذا لم يقم القدر المعتبر لذلك الاستعداد للتقبّل المتبادل بين المتحاورين. والأمر في ذلك مردود في النهاية إلى السعي لا لإلغاء موقف أي من الطرفين وإنّما إلى توسيع مجال التفاهم بينهما سعياً إلى تبيّن المجالات المشتركة، وكذلك إلى تعيين نقاط الخلاف ومجالاته ما أمكن ذلك وتبيّن وجوه التعامل في المجال المختلف وأساليب التعامل في هذا المجال.
والحوار لا يعني فقط أنّ ثمة فريقين أو أكثر يتّخذون جدول أعمال معد ويتبادلون الحديث وفقاً لبنوده في مجالس مشتركة، إنه يعني ذلك باعتباره واحداً من الصور التي يجرى بها، وهو يجري أيضاً بالعديد من صور التفاعل الاجتماعي بالأعمال الفكرية التي تصدر، وبالأنشطة الإعلامية التي تجري وبالمواقف الفكرية والسياسية التي تتّخذها الجماعات المختلفة في المجتمع. ومن ثم فإنّ هذه الأنشطة الحوارية تكشف الأحجام المختلفة للتيارات المتباينة في المجتمع، سواء كانت فكرية أو سياسية أو غيرها. كما أنها تظهر جوهر ما تتضمّنه المواقف العملية من خلفيات فكرية لدى كلّ طرف.
وكلّ ذلك يقتضي ظهور الخصائص الذاتية لكلّ طرف ونتبيّن ملامحه وخصائصه وخصوصياته، فلا يقال إن ثمة آخر غير محدّد الذات والصفات، ويكون مطلوباً تبيّن وجوه التعامل معه، وهو في هذه الحالة من التجهيل.

المقدمة الثالثة: الحوار لا يكون حول قضايا العقائد
الخطاب الحواري لا يتعلّق بالعقائد الدينية؛ لأنّ العقائد الدينية في جوهرها ترتكز على المُطْلقات، وليس على النسبيات، وهى تقوم على اليقينيات وليس على الظنّيات، والمطلق بموجب إطلاقه يكون غير قابل للتقسيم ولو للاجتزاء، وهو إذا انجرح لا يبقى منه شيء، وهو إما موجود بتمامه وكماله أو غير موجود البتة. لذلك لا أتصوّر أن يقوم ثمة تداخلاً بين مطلقات متباينة ومختلفة؛ لأنّ حدود المطلق هي من جوهره بحكم عدم القابلية للانجراح أو الاجتزاء. ومن ثمّ فليس ثمة تدرج في التمسّك العقدي بالمطلق إنما كلّ ما يمكن أن يوجد هو التجاور بين المطلقات مع القابلية للاحتمال والتقبّل، وهذا ما يتعيّن التركيز عليه.
إنّ الخطاب الحواري بعد ذلك لا يتعلّق بالعقائد والمرجعيات العقدية، إنما يتعلّق بآثار العقائد والمرجعيات الفكرية في التصرّفات الاجتماعية والسلوك البشري وفي التعامل بين الأفراد والجماعات، وهذا في ظنّي هو المجال الذي أوصى الإسلام المسلمين بالنشاط فيه. وهناك أمثلة كثيرة توضّح لنا كيف يكون التمييز والحسم في مجال العقيدة وكيف يمكن التدخل والتخلّل في المجال الاجتماعي بين أهل العقائد المتباينة؛ لأن المجال العقدي يتعلّق بالمطلقات والمجال الاجتماعي يتعلّق بالنسبيات التي تحسب المقادير وتقبل التجزئة، وتقبل التعايش والمجاورة.
لذلك رأينا الفقه الإسلامي يتبع هذا المنهج فيما أقام من صروح فكرية تتعلّق بالولاء والبراء في التعامل مع أهل الملل والنحل الأخرى، وما أقام من تصنيفات لهذا التعامل مع أهل الكتاب والذمّيين والمستأمنين والمحاربين، بل إنّه بالنسبة للمشركين ميّز بين المجوس وغيرهم، وكذلك فيما تفتق عنه الفكر الإسلامي الحديث من تبيّن لمفهوم المواطنة التي يمكن أن تقيم جماعة سياسية من أديان مختلفة وترتكز على المساواة في الحقوق والواجبات الخاصة والعامة على السواء.
والخطاب الحواري هنا لا يقوم بين الأديان، ولكنه يقوم بين ذوي الأديان، ولا يكون حول قضايا العقيدة، ولكنه يكون حول قضايا العيش المشترك للآخذين من العقائد المتباينة.؟

المقدمة الرابعة: المواطنة وضع قانوني لا عرفي
في إطار الوطن الواحد، يثور موضوع المواطنة، كما يثور موضوع العلاقات بين المواطنين من ذوي الانتماءات الفرعية المختلفة، وإذا كانت المواطنة تعبّر عن الانتماء الأصلي الذي تبنّته الجماعة السياسية في مرحلة تاريخية ما، فإنّ ثمة انتماءات فرعية عديدة تشمل هؤلاء الذين يضمّهم وطن واحد، ولكنهم يختلفون جماعات جماعات بسبب تعدّد ما ينتمون إليه من أعراق أو أقاليم جغرافية أو عقائد ومذاهب أو لغات ولهجات. وهنا تظهر وجوه العلاقة لذوي الانتماءات الفرعية بعضهم ببعض في إطار الانتماء الأشمل لهم والذي تقوم على أساسه الدولة.
والمواطنة في ظنّي هي واحدة من وجوه الانتماء للجماعة السياسية؛ لأنّها صفة الفرد الذي ينتمي إلى هذه الجماعة، متى كانت الدولة قد قامت على هذه الصفة التي تصنّفت بها الجماعة. والدولة تعتبر من الناحية النظرية المؤسّسة ذات السلطان التي تدير الشؤون العامة للجماعة السياسية، وهي بموجب حاكميتها للجماعة تكون ذات سطوة وولاية عليها، ويظهر وصف المواطنة باعتباره الوصف السياسي الذي يتحدّد به الطرف الآخر في العلاقة مع الدولة. فالمواطنة بذلك تكون هي الصفة التي تتعلّق بالفرد لما توافر فيه من وصف سياسي تصنّفت به الجماعة السياسية وقامت الدولة على أساسه.
وإنّ أهمّ التصنيفات التي تصنّفت بها الجماعات السياسية وقامت على أساسها الدول في التاريخ البشري هي:
•        التصنيف القبلي القائم على وحدة الانتماء الأسري،
•        والتصنيف الديني القائم على وحدة الانتماء العقدي والرؤية الثقافية للكون وللمجتمع،
•        والتصنيف القومي القائم على وحدة الانتماء اللغوي،
مع الاعتبار بطبيعة الحال بعامل الاتصال والتعايش الجغرافي وعامل الصيرورة التاريخية اللذين من شأنهما إنضاج أي من هذه التصنيفات وجعله التصنيف السائد في مرحلة تاريخية معينة.
وما أود الإشارة إليه بعد هذا الاستطراد أنه أن كان أي من التصنيفات السابقة هو ما تصنفت به الجماعة السياسية التي تقوم على أساسها الدولة، فإنّ التصنيفات الأخرى لا تزال تلقائياً وبالضرورة بموجب سيادة التصنيف الذي صارت له المهيمنة، إنما تبقى بحسبانها وحدات انتماء فرعية تضمّ جماعات شتّى وتدخل في علاقات بين بعضها البعض، من حيث التداخل الاجتماعي والتجاور الثقافي والتعايش بالمعاملات والعلاقات الحياتية، وهى تصير بذلك علاقات داخلية خاضعة لهيمنة العلاقة الأشمل. وهذا يوجب عليها أن تقيم علاقاتها ضمن نطاق يتعلّق بصالح مشترك ويستوجب التعايش والتجاور ويستبعد التنافي، وإلا انكسر الوعاء العام المكوّن لوحدة الانتماء الأساسي والمعبّر عن الجماعة السياسية القائمة.
وفي هذا النطاق فنحن نواجه علاقات وحوارات بين الجماعات الفرعية، ثقافية عقدية هي أم اقتصادية طبقية، أم جغرافية إقليمية، أم لغوية قومية أم عرقية قبلية، نواجه أياً من ذلك بحسبها علاقات لجماعات فرعية تقوم على التعدّد في إطار جامع، ومن ثم فهي علاقات وحوارات تستهدف الحفاظ على الصالح الخاص للجماعة المعنية في إطار صيغة للتعاون المشترك وللعيش المشترك الذي يحقّق الأمان للجماعة الفرعية، ويحقّق في الوقت ذاته الصالح العام للجماعة الأشمل.

المقدمة الخامسة: المحافظة على الطابع العام للجماعة الوطنية
نحن في مجال المواطنة، وما دامت العلاقات الفرعية بين الجماعات تقوم في نطاق المواطنة أيّ في نطاق المحافظة على الصالح العام الذي تعبّر عنه الجماعة السياسية الحاكمة بجامعيتها لوحدات الانتماء الفرعية بداخلها، فإنه يتعيّن مراعاة الطابع العام للجماعة السياسية الأعمّ وذات الهيمنة الأشمل، وإذا كان هذا الطابع العام يعكس الوجود المشترك للجماعات الفرعية دينية أو قومية أو عرقية أو إقليمية أو حضارية أو ثقافية فإنّ الموازين النسبية لهذه الجماعات المتعدّدة ينبغي أن تكون محلّ الاعتبار والمراعاة في تحديد هوية الجماعة السياسية.
وفي مجال العلاقات والحوارات الفكرية الدائرة في بلادنا على المستوى الثقافي والفلسفي، بين ذوي المرجعية الدينية في النظر إلى شؤون الحياة ونظم المجتمع والعيش وعلاقات التعامل والسلوك، وبين ذوي المرجعية الوضعية العلمانية نحو هذه الشؤون، في هذا المجال من العلاقات والحوارات يتعيّن مراعاة أن الحوارات تدور هنا بين جانبين يصدر كلّ منهما عن مرجعية فكرية وفلسفية مناقضة لمرجعية الآخر، الأول مرجعيته تتحصّن في ثوابت الدين وما يعتمد عليه من عقائد مطلقة، والثاني مرجعيته تستند إلى نفي الدين بحسبانها مرجعية لشؤون الحياة ونظم المجتمع والمعاملات.
ومن ثم فإنّ الحوار بين الطرفين يستعصي أحياناً على الحلّ، لافتقاد الأصل الفكري المشترك الذي يمكن أن يتصاعدوا إليه ويستمدّوا منه معايير الاحتكام على الأمور بالصواب والخطأ أو بالصحة والبطلان.
ونحن هنا عادة ما نكون في مجالات تعارض بين الحرّيات والحقوق، أو بين الجماعات الأصغر والجماعات الأكبر، أو بين المطلق والنسبي، ونحن ما دمنا في مجال علاقات "داخلية" لجماعات تضمّها جماعة سياسية واحدة، وتراعى بشأنها الأوزان النسبية لأطراف العلاقة واستبعاد مبدأ التنافي بينها، فإنه يتعيّن أن تقوم هذه العلاقات في إطار المواطنة وفقاً للأسس الآتية:
أ - إنّ الحرّيات وهي محض رخص وهي ما يكفله القانون والنظام كحرّية التعبير أو حرية التملّك أو حرية الانتقال أو غير ذلك، يتعيّن أن تقف عند حدود "الحقوق" فلا تنتهكها؛ لأنّ الحقوق متعيّنة ومحدّدة، فحرّية الانتقال يتعيّن أن تقف عند حدود ملك الآخرين فلا تقتحمه، وحرّية البيع والشراء يتعين أن تقف عند حدود مال الآخرين فلا تغتصبه، وحرّية التعبير ينبغي أن تقف عند حدود عدم جواز سب الآخرين.. وهكذا.
ب- إنّ حق الفرد وصالحه يقف عند حدود حقّ الجماعة وصالحها، كما أنّ حق الجماعة الأصغر ينبغي أن يقف عند حدود الجماعة الأشمل، والعبرة هنا بالأوزان النسبية، وهذا أمر تتّفق عليه وجهات النظر برغم تباين المرجعيات الفكرية. والفكر الديني الآتي من الشريعة يوافقه الفكر الوضعي الآتي من أي فلسفة مادية أو لاأدرية، في أرجحية الأعمّ على الأخص. كما يلاحظ ذلك واضحاً في مواثيق حقوق الإنسان التي تضبط عدداً من الحقوق بضوابط السلامة العامة والنظام العام والصحة العامة وحقوق الآخرين وحرّياتهم الشخصية.
جـ- ما دامت سبقت الإشارة إلى ما يتعلّق "بالفكر المطلق" والفكر النسبي، وأنّ الأول لا يحتمل التقسيم ولا التبعيض، بينما النسبي يتحمّل ذلك، فقد وجب أن نستخلص من ذلك أنّ النسبي من الأفكار والمبادئ يتعيّن أن يقف عند حدود المطلق؛ لأنّ النسبي لا يتلاشى بالاجتزاء بينما المطلق يحدث له ذلك.
وقد نختلف كثيراً عند إعمال هذه الضوابط، وعند السعي لتبيّن وجه الصواب في كلِّ نازلة معيّنة، ولكن التوافق على هذه الضوابط من شأنه أن يهدي المتحاورين إلى ما لا تنصدع به الجماعة من صراعات أو نزاعات. ويعتبر الاختلاف بين الأطراف اختلاف فروع غالباً وليس اختلافاً في الأصول التي تقوم عليها الجماعة.

المقدمة السادسة: الغرب من منظور ثقافي
في مجال العلاقات مع الغرب من الناحية الثقافية، فإنّ الأمر أوسع من أن يُعرض في فقرة قصيرة؛ لأنه مشتبك بعديد من المسائل السياسية مع الغرب وبعديد من الاختلافات الفكرية بين المواطنين بعضهم وبعض، وحسبي الإشارة إلى بعض الجوانب.
•        إن الغرب الثقافي، سواء كان مسيحيّاً أو علمانيّاً يبدو مكتفياً بذاته، والسائد منه أنه لا يرى احتياجاً له في أيّ من ثقافاتنا أو عقائدنا، سواء بالنسبة لثقافة المسلمين أو بالنسبة لثقافة المسيحيين الشرقيين.
•        والغرب الثقافي يقيس تقدّم الشعوب الأخرى بقدر قربها منه، ويقيس تأخرها بقدر بعدها عنه، ويحكم على حركتها إيجاباً وسلباً بحركة اقترابها منه أو ابتعادها عنه، فهو معيار التقدّم ومرجع الشرعية والاحتكام.
•        والغرب الثقافي أيضاً، يعتبر نفسه هو العالم، وقسم تاريخ العالم كلّه، قديمه ووسطه وحديثه، حسب تقسيمه لتاريخه هو، فسقوط روما هو العلامة الفاصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الوسيط، وسقوط القسطنطينية ثمّ النهضة في غرب أوروبا هو العلامة الفاصلة بين التاريخ الوسيط والتاريخ الحديث. وأطلق على التاريخ العالمي وصفه لتاريخه هو، فالعصور الوسطى هي عصور الظلمات برغم أنها لدى المسلمين عصر تنوير ديني وعقلي وعصر استنارة أيضاً.
•        والغرب الثقافي أيضاً استخلص النظريات السياسية والاجتماعية من واقع خبرته التاريخية هو، استخرج قوانين تطوّر المجتمعات وخصائصها من تجاربه هو، وسمّى العصور الاجتماعية وحدّد خصائصها وفقاً لذلك، سواء العصر العبودي أو الإقطاعي أو الرأسمالي… وهكذا، واعتبر مدارسه الاجتماعية هي ما يشكّل قوانين تطوّر البشرية في العالم كلّه. ونظر إلى تجارب الشعوب غير الغربية ليقيسها بذات مقياس نظره التاريخي والفكري المستخلص من تجربته الذاتية. فما شابه من تجارب الآخرين تجربته أكّدت صحّة استخلاصه، وما خالفها أبقاها نتوءاً أو شذوذاً على نظرته التاريخية، وفسّرها البعض بأنها "شبه إقطاعي" "شبه رأسمالي" وهكذا.. وفي الجملة أبقيت تجارب الآخرين المخالفة بحسبانها تجارب "خارج السياق".
ونحن نلحظ في العديد من كتابات المستشرقين عن الحضارة الإسلامية أو أيّ من حضارات الشرق أنهم نظروا إليها لا نظرة دارس محاور ولكن نظرة دارس تجاه موضوع يدرسه، بمعنى أنه نظر إليها وحكم عليها في ضوء معايير مستخلصة من واقع تجاربه الثقافية والحضارية وحدها، بغير جهد لاستخلاص معايير للحكم تجاوز كلا من الحضارتين الثقافتين أو تتّصل بالمشترك العام بينهما. ولا يتّسع المقام لذكر الأمثلة ولكن تكفي الإشارة السريعة لنظم الحكم مثلاً ولنظم الأسرة وغير ذلك.
ومن هنا فإنّ موضوع الحوار مع الغرب في الشأن الثقافي يتعيّن أن يأخذ من جانبنا أول ما يأخذ بالاعتبار بأن الأفكار الغربية عن التقدّم والحضارة والنظم وغير ذلك، إنما جنحت أحياناً من خصوص التجربة الغربية إلى عموم الخبرات البشرية والعالمية دون دليل مستمدّ من الاستقراء التاريخي، وأنّها من ثم جنحت أحياناً إلى اعتبار ما هو مذهب أو وجهة نظر، إلى اعتباره "قانوناً" اجتماعياً أو تاريخياً يصدق على الكافة.

المقدمة السابعة: ملامح إدراك الغربي للثقافة العربية
يتّصل بالنقطة السابقة ما يذكرني بعبارة هادئة قرأتها لمالك بن نبي من سنين بعيدة، وهي تعني أنّ المثقف الغربي يمكن أن يتفهّم مطالبنا السياسية والاقتصادية، ولكنّه لا يستطع أن يتفهّم منظومتنا الفكرية الناتجة عن السياق الحضاري والتاريخي والثقافي لنا. وأظنّ أنّ ذلك راجع إلى أنّ العقل الثقافي الغربي باستعلائه واستغنائه، لا ينجذب إلى تعبيرنا الثقافي الصادر عن المرجعية الفكرية والحضارية الإسلامية، حتى إن كانت تعبّر عن وقائع ونوازل شبيهة بما يعرف في تجربته التاريخية، مما يعبّر عنها في سياق ثقافية الذاتية.
إنّ المفكّر الغربي الإنساني لا يفهم فكرة دار السلام ودار الحرب في فقه المسلمين، ولكنّه يفهم ما يعرف بقوانين السلم وقوانين الحرب في الفقه الوضعي الغربي الحديث، وما به من اتفاقيات ومواثيق تتعلّق بهذه الأمور. وهو يرى في دار الحرب عدواناً محتملاً عليه برغم أنّ المفهوم ذاته له مثيل في قوانين الحاضر الغربي. قد يكون علينا ألاّ نبقى أسارى ما ارتبط به بهذا المفهوم من أوضاع قديمة تاريخية بادت. وقد يكون ينقصنا فيه تطوير الأحكام الفرعية المرتبطة به بما يتلاءم مع ظروف العصر الحاضر وأوضاعه، ولكن يبقى ثمة مجال حربي تثور قضاياه عند حدوث العدوان على أيِّ من بلادنا أو شعوبنا، وثمة مجال سلمي تتراءى مسائله عندما تعمّ أوضاع سلام وتعاون وتهادن.
وأنّ الفكر الغربي يرى في مفهوم الجهاد عدوانية احتمالية تبدو تحريضاً من المسلمين عليه، وهو لا يطيق هذا المفهوم لما يراه فيه من ترادف مع العدوان والتهديد، وذلك برغم أنّ المسلمين بعامة لم يستخدموا هذا المفهوم في حركاتهم الحديثة إلا تعبيراً عن حركات تحرير وطني أو مقاومة وطنية ضدّ عدوان غربي عليهم، وأنّ مثل هذه الحركات للتحرير الوطني عرفتها إيطاليا ضدّ الحكم النمسوي لها في القرن التاسع عشر، وعرفتها الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ الاستعمار البريطاني لها في القرن الثامن عشر وعرفتها فرنسا ضدّ الاحتلال الألماني والنازي لها في القرن العشرين.
نحن في حرب المقاومة الوطنية نستخدم سياقاً إيمانياً نعبر به عن واجبنا المقدّس تجاه جماعاتنا من أجل تحريرها والمثقف الغربي لا يحتاج لهذا السياق الإيماني لخوض ذات المسألة؛ لأنّ لغاتنا الثقافية متباينة بيننا وبينه، ومحركاتنا الفكرية ودوافعنا الإيمانية متباينة أيضاً.
والمثقّف الغربي الإنساني تفوته كثيراً أو تفوته أحياناً هذه التباينات في التعبير من ذات الفعل وردّ الفعل، وعلينا عندما نتحاور معه أن ندرك هذه الفروق.
نحن نتخاطب في شؤون الحياة المعيشة، بين بعضنا البعض من خلال مرجعيتنا الثقافية والعقدية ولكي نضمن وصول المعنى ذاته إلى العقل الثقافي الغربي الإنساني، فيمكننا أن نراعي ترجمة هذه المفاهيم إلى لغته الثقافية، وذلك للتقريب والتبيين.

المقدمة الثامنة: دلالة المركز السياسي في الحوار الحضاري
العلاقات مع الغرب تلتبس بين الثقافي والحضاري من جانب وبين السياسي والعسكري من جانب آخر.
وفي كلمات مختصرة فثمة خلاف يتعلّق بالجوانب الحضارية والعقدية، وثمة صراع يتعلّق بالجوانب السياسية. ويمكن القول إنّ الغرب سياسياً منتصر، وإنّ بعض قواه تمارس سياسات عدوانية علينا، مستخدماً الآلة العسكرية أو الهيمنة الاقتصادية أو الإحاطة الإعلامية. وهو من ناحية أخرى حضارية يرى حضارته هي حضارة العصر الحديث، ويتداخل كلّ ذلك لديه في نظرته إلينا وتعامله معنا، وهو يستخدم الخلاف الثقافي في تسويغ الصراع السياسي.
أما من ناحية المسلمين فهم يتلقّون عدوان الغرب ويتلقّون حضارته النافع لهم منها وغير النافع، والكثيرون يتشتّتون بين منبهر بحضارة الغرب، طالباً الأخذ بها، وبين مقاوم لسياسة الغرب وعامل على التميّز عنها. وتتداخل قضايا السياسة وموجباتها مع قضايا الفكر والحضارة وتوابعها، وإنّ جهداً هائلاً بذلناه وأنفقناه على مدى مائتي سنة مضت في المعاناة من هذا التدخّل أو في الانقسامات حول هذه القضايا والاختلاف والتطاحن فيما نأخذ وما ندع وما ينفعنا وما يضرّنا، حتى بدأت رؤانا تتفتح في خواتيم القرن العشرين في هذا الشأن فيمكننا الفصل بين السياسي وبين الثقافي، ويمكننا التمييز بين ما ينفع وما لسنا في حاجة إليه وما يضرّنا.
على أنّه يتعيّن ملاحظة أنّ العدوان الغربي على بلادنا وشعوبنا العربية والإسلامية على مدى القرنين الماضيين كان دائماً لدى المعتدين يتّخذ تعزيزاً ثقافيّاً. وكانوا دائماً يستخدمون حجة التعصب الإسلامي هدفاً لتبرير غزونا والسيطرة علينا، ونحن لا ننسى أنّ أحمد لطفي السيّد المفكر الليبرالي المصري الآخذ عن فكر الغرب وثقافته، والداعي إلى الجامعة الوطنية غير الدينية، هو نفسه الذي لاحظ في 1908 في مقال نشره "أنّ تهمة التعصّب (الديني الإسلامي) يظهر أنها قاعدة سياسية يعتنقها الإنجليز ليعملوا بها في مصر، فإنها عندهم تساوي قاعدة الباب المفتوح في التجارة أو قاعدة الفرار من النظريات إلى العمليات في العلوم". (جريدة الجريدة 4 إبريل 1908).
والآن في بدايات القــرن الحادي والعشرين تنطلق من الولايات المتحدة الأمريـكـيـة (وارثة الاستعمار الغربي في العالم) مقولة "صراع الحضارات" وتصريحات الرئيس بوش عن التعصّب الإسلامي، وذلك لتغطية سياسات الهيمنة الأمريكية الجاري اتخاذها في بلادنا، وفي ظل هذه "القاعدة السياسية"، (على حدّ تعبير أحمد لطفي السيد) يجري ما يجري في أفغانستان والعراق وفلسطين والسودان والصومال ولبنان وغيرها، وتستغل هذه "القاعدة السياسية" في مواجهة حركات تحرير وطني وحركات مقاومة وطنية تتّخذ صيغة إسلامية في الدفاع عن الديار والأوطان وتستثير روح الشهادة لله والوطن.
إنّ وصف الصراع الدائر في بلادنا الآن بأنه صراع سياسي يكشف مباشرة من هو المعتدي، ومن هو المعتدى عليه؛ لأنّ المشهد يكشف عن أنّ أهالي بلاد معينة يمسكون بالسلاح في أيديهم ويوجّهونه إلى غرباء محتلّين أتوا من أقصى البلاد الأخرى، ويكشف ذلك عن أنّ من يمسك بالسلاح إنما يدافع عن أرضه ووطنه وجماعته ضدّ غاز معتدٍ غريب.
أما إذا وُصف الصراع الدائر بأنّه صراع ثقافي وحضاري، فإنّ المشهد يمكن أن يُصاغ على اعتبار أن هناك أناساً بسبب ما يدور في أذهانهم من أفكار يمسكون بالسلاح ويقتلون الآخرين، فيبدو من ذلك أنّ المقاوم والوطني هو المعتدي، وأنه يعتدي على الآخر بسبب ما يدور في ذهن هذا المقاوم من أفكار.
لذلك كنت حريصاً في بداية هذا الحديث أن أثير التساؤل عمن هو هذا الآخر أو هذا الغير الذي نتكلم عن العلاقة معه.

المقدمة التاسعة: الوفاق الحضاري يرد بالاختيار الحر
بالنسبة للجوانب الحضارية، لقد كانت هناك تغذيات متبادلة بين الحضارات على مدى قرون طويلة، وعلى وجه الخصوص بين الحضارة الإسلامية العربية وبين الحضارة الغربية الأوروبية، وقام ذلك في حضارات ما قبل الإسلام وما بعده، والأمر في الحالين معروف مشتهر ومراجعه قريبة التناول بما لا حاجة معه لتكرار أو مزيد بيان.
إنما ما أود أن أنبّه إليه في عجالة هنا أنّ أهمّ التأثيرات وأبقاها إنما يجيء في ظروف الاختيار الحر لكلّ من الجانبين عن الآخر. وكانت هذه تجربة ما أخذه المسلمون مختارين من حضارة الغرب، خاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، كما أنها هي تجربة الغرب فيما أخذه من حضارة المسلمين مختاراً في القرنين الميلاديين الثاني عشر والثالث عشر وما بعدهما.
وأهم درس يمكن أن نتعلّمه في هذا السياق هو أنّ الوفاق الحضاري يرد بالاختبار الحر لما يرى أيّ من الأطراف حاجة له فيه من منجزات الآخر، وهو يرد بقدر ما تغيب عوامل القهر السياسي.
أكاد أقول: إنّ كانت قضية القضايا بالنسبة لنا على مدى القرنين الماضيين ليست هي أن نتعامل ونتفاعل مع حضارة الغرب ومنجزاته، ولكنها كانت ما نأخذ وما ندع، وما نحتاج إليه وما لسنا في حاجة إليه لوجود مثيل له عندنا، قد يحتاج إلى تطوير وتجديد ولكنه موجود.

وأضرب لذلك مثلاً، فإن أول كلية أنشئت في مصر لتدريس القانون الوضعي الغربي أنشئت سنة 1868 باسم مدرسة الإدارة والألسن، وكانت تدرّس القانون المدني والمرافعات والقانون التجاري وغيرها، مما كان لنا مثيل له في فقه الشريعة الإسلامية، ولم يكن من مناهج هذه المدرسة القانون الإداري ولا القانون الدستوري ولا القانون المالي مما كنا في أشدّ الاحتياج إليه بمعنى أنها كانت تعطينا ما لدينا مثله ولسنا في حاجة لاستجلاب بديل عنه وتمنع عنا ما نحتاجه.

المقدمة العاشرة: التفاعل الحضاري على الصعيد التقني مهم ثقافياً
من أهم ما يميز الحضارة الغربية في ظني مما نفتقر إليه افتقارا شديداً ونحتاجه احتياجاً ملحّاً هي العلوم الطبيعية والفنون التقنية، وكذلك نظم الإدارة غير الشخصية التي تعتمد على الأبنية المؤسّسية والقرارات الجماعية وتقسيم العمل وتكامله وتعدّد هيئات اتخاذه والتنسيق بينها وذلك كلّه سواء في إدارة الدولة وهيئاتها أو إدارة شئون المجتمع الأهلي الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها من شركات وجمعيات ونقابات وغيرها.
إنّ هذه النوعيات من فروع المعرفة لا تكتسب بالتعليم فقط، ولكن بالممارسة أيضاً بل قد تكون الممارسة أبلغ أثراً في التعلّم.
ويبدو لي أنّ هذه الفروع من العلوم والمعارف التي تكتسب بالتعليم وبالممارسة، يكون لها أبلغ الأثر في التثقيف الفكري وفي إصقال المواقف من الآخرين؛ لأنّ العمل الجماعي وإدراك الاحتياج للآخرين في صياغة العمل الواحد، أنّ ذلك له أثره الثقافي المهم في التواصل وفي الاعتماد المتبادل، كما أنّ علوم الصنائع وفنونها لها كذلك أثرها الثقافي الهام في تزكية المنهج العقلي والتجريبي بين المتعاملين معها.