2011/05/06

الولايات المتحدة والإمبريالية






يتصور البعض أن قيام الولايات المتحدة بغزو أفغانستان والعراق ودعم الدولة الصهيونية وعدم الاكتراث بالشرعية الدولية وتأليب دول العالم ودول الخليج ضد إيران، هي أمور استثنائية، لأن الولايات المتحدة بلد ديموقراطي لا علاقة له بالاستعمار. ولكن الملاحظ المدقق سيرى أن هذه ليس مجرد أحداث متفرقة بل جزء من نمط إمبريالي بدأ مع بداية تاريخ الولايات المتحدة، يتلخص في عبارة واحدة: رفض الآخر وتوظيفه في خدمة المصالح المادية أو إبادته إن قاوم. وكثير من الناس لا يعرفون تاريخ أمريكا الإمبريالي: إبادة الهنود الحمر، وتسخير الإفريقيين السود، واحتلال الفلبين وهاواي والهيمنة على أمريكا اللاتينية إلى آخر هذا التاريخ الإمبريالي الطويل النابع من رؤية إمبريالية للعالم تراه باعتباره مادة استعمالية يوظفها القوي 
لصالحه. وقد وصلت هذه السياسة الإمبريالية إلى الذروة في تفكير المحافظين الجدد

ولكن بدلاً من الحديث النظري عن هذا الفكر، فلنبيّن معالمه الأساسية من خلال توضيح الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لغزو العراق، والرؤية الكامنة وراء هذا الغزو (ووراء غزو أفغانستان والعداء لإيران ودعم الدولة الصهيونية...إلخ). تصور المحافظون الجدد (وهي النخبة الثقافية التي توجه جورج بوش وسياساته) أنه من الضروري تفتيت المنطقة العربية وإعادة تركيبها على أسس قَبَلية وعشائرية وإثنية ودينية وعرقية، بحيث تُقسّم المنطقة إلى دويلات يمكن إخضاعها والهيمنة عليها بدلاً من أن تشكل كتلة سياسية واقتصادية وثقافية كبرى، تدخل في علاقة ندية مع بقية الكتل الاقتصادية والسياسية. كما أن هذا الفكر الإمبريالي يذهب إلى ضرورة الهيمنة على منطقة الخليج لسببين أساسين: أن هذه المنطقة تحتوي على أكبر مخزون بترول في العالم. إلى جانب أن الهيمنة الأمريكية على هذه المنطقة تعني ضمان أن أصحاب الأموال العربية والتي تقدر بمئات البلايين والتي أودعوها في البنوك الأمريكية والتي تشكل الدعامة الأساسية للدولار لا يمكنهم استخدمها كوسيلة للضغط على الولايات المتحدة. ويرى المحافظون الجدد أنه يمكن تحقيق هذا في ظل غياب نظام عربي قوي، وأنه يمكن ابتزاز دول الخليج بكل سهولة ويسر.
ويذهب المحافظون الجدد إلى ضرورة تغيير النظم العربية تحت ستار الالتزام بمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتنصيب نظم جديدة ونخب حاكمة أكثر مرونة يمكنها أن تقبل الدولة الصهيونية، وتطبّع العلاقة معها. ويرى أصحاب هذا الفكر الإمبريالي أنه من الضروري تغيير التوجه الثقافي للبلاد العربية والإسلامية، من خلال تعديل المناهج الدراسية واختراق الإعلام  وإشاعة ما يسمى "ثقافة السلام" التي تعلي من شأن قيم مثل التكيف والمرونة وتحذر من قيم مثل الجهاد والالتزام، حتى تظهر أجيال جديدة لا تكترث كثيراً بالهوية أو التراث، وترى أن المقاومة مسألة عبثية. ومن أولويات هذا الفكر التصدي للتيار الإسلامي الآخذ في التصاعد والذي يحمل علم المقاومة (حزب الله- حماس) والتصدي للغزو الأمريكية الصهيوني، ومحاولة استئناس العالم الإسلامي وتدجينه إذ أثبت أنه من أكثر المناطق رفضاً للهيمنة الأمريكية. وقد أخبرهم برنارد لويس، المستشرق الأمريكي الصهيوني، أن تركيع دولة عربية كبرى مثل العراق سيؤدي إلى خضوع بقية العالم العربي للهيمنة الأمريكية.
كما يرى دعاة الفكر الإمبريالي الغربي أنه من الضروري بقاء شكل مكثف من أشكال الوجود العسكري في المنطقة العربية، حتى تضمن استمرار الهيمنة الأمريكية، وضرورة قيام نظام إقليمي جديد في المنطقة يسمّونه الشرق الأوسط الجديد يضم إسرائيل وإيران (بعد تدجينها) والعالم العربي بما في ذلك عراق ما بعد صدّام. وهم يذهبون إلى أن إسرائيل ستلعب دوراً أساسياً في عملية إعادة صياغة المنطقة سياسياً وثقافياً بحيث تصبح دولة يهودية بين دويلات مختلفة (دولة درزية- دولة شيعية- دوبلات سنية- دولة أمازيغية). والمخطط الآن أن تصبح إسرائيل عنصراً أساسياً باعتبار أنها
الأعلى مستوى والأكثر تقدما والأقوى عسكريا، ثم لديها في نهاية الأمر الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الأمريكي.


كما لاحظ أصحاب هذا الفكر الإمبريالي أن تراجع الولايات المتحدة اقتصادياً، إلى جانب أنها لأول مرة تواجه قوة عظمى ضخمة، تساندها قوة عسكرية لا
 تقل ضخامة (الصين). في الماضي واجهت الولايات المتحدة قوة اقتصادية ليس لها قاعدة عسكرية (اليابان)، أو قوة عسكرية لا تساندها قاعدة اقتصادية (الاتحاد السوفيتي). لهذا تحاول الولايات المتحدة الاستيلاء على منابع البترول حتى يمكنها أن تجعل موازين القوى في صالحها.     
كما لاحظ حملة هذا الفكر أنه مع انتهاء الحرب الباردة وظهور الولايات المتحدة كقطب أعظم واحد في العالم، تطلب استمرار إنتاج السلاح أن تستمر النخبة الحاكمة في تحريك الجيوش والدخول في مغامرات عسكرية. ولكن لابد من إعطاء مبررات جديدة للجماهير الأمريكية، التي سلبتها الإدارة الأمريكية أموالها من خلال الغش والخداع، كما اتضح في فضائح شركة إنرون وغيرها من الشركات. وبالطبع لم يكن هناك مبرر أفضل من وجود تهديد لأمن البلاد سواء كان ذلك التهديد من أسامة بن لادن أو العراق ثم إيران الآن. ويبدو أن التفكير الإمبريالي الجديد في الولايات المتحدة كان قد وصل إلى قناعات عديدة أشرنا لها من قبل. ثم جاء 11 سبتمبر (أيلول) وأعطاهم الذريعة التي كانوا يبحثون عنها، وبدأت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل وعلاقة نظام صدام حسين بالقاعدة، وقد ثبت كذب الادعاءين، إذ لم يعثروا على أي أسلحة دمار شامل أو جزئي، وأنه لم يكن هناك أي علاقة بين النظام القائم آنذاك والقاعدة. وهذا ما يدفعني إلى التأكيد على أن السبب الحقيقي لغزو العراق يتمثل في رغبة المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة في توظيف الأسلحة المنتجة واستهلاكها المستمر حتى يمكن دفع عملية الإنتاج للاستمرار في الدوران. 
وقد بيّن الأستاذ هيكل أن المصالح الرأسمالية الكبرى كانت هي دائما المهيمنة على صنع القرار في الولايات المتحدة، ولكن كان هناك دائما مسافة تفصل بين الإدارة الأمريكية واللوبي الذي يمثل هذه المصالح، أو على الأقل التأثير فيه. ولكن هذه المسافة ضاقت تماما في حالة إدارة بوش، فالإدارة الأمريكية الحالية تمثل هذه المصالح بشكل فظ ومباشر. ومن أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد الرأسمالية المتقدمة قطاع صناعة السلاح، ولذا فهو يلعب دورا مهما يتناسب مع أهميته داخل الاقتصاد الأمريكي.
وهناك شيء لا يعرفه الكثيرون، ذلك أن تجارة السلاح في الولايات المتحدة هي الطريقة التي يتم بها نهب الشعب الأمريكي بلا تحفظ، لأن السلاح ليس سلعة تطرح في الأسواق وتدخل في منافسة مع مثيلاتها. فالسلاح الأمريكي يتم تحديد ثمنه، لا من خلال مناقصة، وإنما بالاتفاق مع النخب الحاكمة والتي يشكل جنرالات الجيش السابقين جزءا أساسيا منها. كما أن الجنرالات الحاليين سيصبحون عما قليل مدراء لشركات السلاح. وللتدليل على ما أقول سأشير إلى ما قرأته ذات يوم عن تكاليف طائرة الإيواكس: جهاز إعداد القهوة داخل الطائرة ثمنه 1000 دولار أمريكي، وتوجد أربع قطع من البلاستيك أسفل مقعد قائد الطائرة ثمن الواحدة منها 750 دولاراً!، والمعنى أن الثمن في هذه الحالة اعتباطي لأنه غير خاضع لآليات السوق، وبالتالي فإن تجارة السلاح هي الطريق الحقيقي لنهب الشعب الأمريكي. وإذا توقفت عجلة الإنتاج في قطاع إنتاج السلاح فإن كثيرا من أعضاء النخبة سيتضررون إلى أقصى درجة.
إن جاردنر الذي نصبته أمريكا حاكما عسكريا على العراق تاجر سلاح في الأصل، وكانت الشركة التي يمثلها هي المسئولة عن توريد صواريخ باتريوت للجيش الأمريكي. تشيني عضو مجلس إدارة هاليبرتون التي قامت بنهب الملايين من خلال توريد سلع للجيش الأمريكي في العراق بأثمان مبالغ فيها. ودونالد رامزفيلد هو الآخر له علاقة بصناعة السلاح.
ولكن هل سيتحقق مشروع المحافظين الجدد على أرض الواقع؟ وهل ستذعن الدول العربية الواحدة تلو الأخرى؟ هل سينجحون في تدجين إيران؟ من الصعب الإجابة على هذا الأسئلة بالإيجاب، بل أعتقد أن هناك مشاكل كثيرة سوف تواجههم تماما مثلما حدث مع المشروع الصهيوني. فهو حين بدأ عام 1948 كان من بين أهدافه أشياء محددة أهمها سقوط لبنان وتحوله إلى دويلات ثم القضاء على الفلسطينيين وتغيير النظام في العراق. لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما، حيث لم ينجح المشروع الصهيوني في القضاء على الفلسطينيين، ولبنان الذي كان من المتوقع أن يكون أول دولة عربية تسقط أصبحت إحدى أهم قواعد المقاومة والصمود. وهذا ما أعتقد أنه سيحدث بالنسبة للمشروع الأمريكي الحالي، نعم هم يخططون ويتخيلون نجاحا في مخططهم، لكن الآية القرآنية )وَيَمْكُرُوْنَ ويُمْكِرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِيْن( ستثبت صدقها في هذه المرحلة من التاريخ.
لقد تصورت الإدارة الأمريكية في عهد بوش أن الوضع في العراق سيستقر، ولكن بعد تصاعد المقاومة، وبعد أن وصل عدد القتلى من الجنود الأمريكيين ما يزيد عن عدة ألوف (وهو العدد الرسمي المعلن، والذي يقل كثيراً عن عدد القتلى الحقيقي، كما أنهم لا يظهرون عدد الجرحى) بعد كل هذا تغيرت رؤيتهم، ومن هنا إعلان دستور جديد للعراق وطلب تدخل الجامعة العربية بل والتفاوض مع جماعات المقاومة. كما يجب أن نلاحظ أن الجماهير الأمريكية لم تعد كما كانت في الماضي. ففي أثناء حرب فيتنام بدأ التململ بعد عشرات الألوف من الضحايا، أما الآن فقد بدأ التململ بعد الرقم سبعمائة وتراجعت شعبية بوش. وهذا يعود إلى أن ما يسمى "عتبة التحمل" قد تراجعت بسبب تزايد معدلات الفردية والتوجه نحو اللذة. وقد قام الإعلام الأمريكي بتفريغ المواطن الأمريكي تماما من أي مثاليات مثل الكرامة وحب الوطن وضرورة المشاركة في السياسة وصنع القرار. كل هذه الأمور جعلت المواطن  يتململ بسرعة، خاصة بعد أن أعلن بوش منذ عامين، مرتديا زيا عسكرياً، انتهاء العمليات العسكرية في العراق!
والله أعلم.