2011/04/27

فى أن التقشف هو الحل - فهمي هويدي





هل نستكثر على المصريين الذين تحدَّوا جبروت نظام مبارك حتى أسقطوه من عليائه، أن يقوموا بما عليهم إزاء مسئولية بناء النظام الجديد؟

(1)

ما دعانى إلى طرح السؤال هو تلك الجولة التى يقوم بها فى منطقة الخليج، رئيس وزراء الثورة المصرية الدكتور عصام شرف. وكان قد سبقه إلى واشنطن وزير المالية الدكتور سمير رضوان، الذى ذهب مخاطبا صندوق النقد وآملا فى تدخله لمساندة الوضع الاقتصادى المصرى. وهى المهمة التى أحسب أن جولة رئيس الوزراء ليست بعيدة عنها.

إذن لست أخفى أن فى نفسى شيئا إزاء الهدف من الزيارتين، هو فى حده الأدنى شعور بعدم الارتياح المسكون بالاستياء. ذلك أننى ما تمنيت أن يعالج الأمر بهذه الصورة، التى تحضر فيها الحكومة ويغيب المجتمع، كما تبدو فيها مصر الثورة طالبة لا مطلوبة.

أدرى أننا بصدد أزمة اقتصادية لأسباب متوقعة ومفهومة. وذلك أمر لا مفاجأة أو غرابة فيه، علما بأن بعض الدول الأوروبية تواجه الآن أزمات اقتصادية تتفاوت درجاتها، من فرنسا وانجلترا إلى إسبانيا واليونان مثلا. وهى تتعامل معها بهدوء، وبغير ذعر أو ضجيج.

أضيف إلى ما سبق ثلاث ملاحظات من حيث الشكل على التحركات التى تقوم بها الحكومة فى تعاملها مع المشهد الاقتصادى بعد الثورة هى:

●إن موقفها لا يتسم بالشفافية الكافية. وهذه ملاحظة الاقتصاديين الذين حدثتهم، ووجدت أنهم يدركون جيدا أن ثمة أزمة لكنهم لا يعرفون شيئا عن حقائقها.

ولا ما إذا كانت قد بلغت مرحلة الخطر أم أنها فى الحدود الآمنة. صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة دعا إلى ندوة فى 7/4 تم فيها عرض الموقف الاقتصادى من مختلف جوانبه، إلا أن أغلب حضور الندوة كانوا من الإعلاميين والسياسيين وأقلهم كانوا من الاقتصاديين.

●إن بعض الدول الخليجية التى زارها رئيس الوزراء لم تكن سعيدة ولا مرتاحة للثورة المصرية، حتى إن إحداها منعت إعطاء تأشيرات زيارة أو السماح بتعيينات جديدة لأبناء الدول التى شهدت ثورات أو انتفاضات مؤخرا، ومنها مصر. وهذه الخلفية تشكك فى حماس تلك الدول للتفاعل مع المهمة التى يسعى رئيس الوزراء لإنجازها.

●إن لجوء الحكومة إلى مخاطبة الخارج ما كان له أن يتم إلا بعد استنفادها لوسائل التعامل مع الأزمة فى الداخل. فى هذا الصدد أزعم فى هذا الصدد أن ثمة استحقاقات داخلية أخرى لو تم الوفاء بها لكان موقف الحكومة المصرية أفضل فى مخاطبة أى طرف خارجى.

(2)

لا أخفى أننى فيما عبرت عنه من مشاعر قلقة، أنطلق من موقف شخصى يتحفظ على بعض الأطروحات التى تتردد فى الساحة المصرية، فى المقدمة منها ما يلى:
لدى تحفظ على المبالغة فى الاهتمام بالسلطة مع تجاهل دور المجتمع، الذى تشكل عافيته خانة أساسية لاستقامة السلطة والحيلولة دون جنوحها. وأستغرب مثلا انشغال وسائل الإعلام وإشغال الرأى العام بالتالى بالمرشحين لرئاسة الجمهورية دون أى ذكر للإعداد لانتخابات مجلس الشعب التى تسبق انتخابات الرئاسة. علما بأن الانتخابات البرلمانية تشكل أول خطوة باتجاه التمثيل الشعبى الحر وتأسيس النظام الديمقراطى الذى يتوق إليه المصريون.

لدى تحفظ أشد مقترن بالشك والارتياب إزاء الإلحاح على فكرة الدولة المدنية مع تجاهل وجود المجتمع المدنى. وأستغرب الحملة الإعلامية التى يقودها مثقفون وسياسيون دفاعا عن لافتة تلك الدولة، دون أن يبذلوا أى جهد يذكر للدفاع عن المجتمع المدنى ممثلا فى المنظمات الأهلية التى تنشط فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. الخ. وكانت النتيجة أننا لم نشهد أى تطور لافت للنظر فى محيط تلك المنظمات الأخيرة.

لدىّ تحفظ أيضا على فقدان الثقة بالناس والتهوين من قدرتهم على العطاء فضلا عن الابتكار والإبداع. ومما يثير الدهشة فى هذا الصدد أننا خارجون من مشهد أثبت للقاصى والدانى مدى قوة المجتمع وبأسه، وهو ما تجلى فى خروج الملايين فى أنحاء مصر وإصرارهم على إسقاط النظام وتحدى زبانيته بشجاعة نادرة. كأن الثورة أخرجت من الناس ما كان كامنا فيهم من عزم وشجاعة. وهو ما ينبغى أن يعزز ثقتنا فى الجماهير العريضة، وما يستدعى سؤالا كبيرا هو: كيف يمكن استعادة تلك الروح واستثمار تلك الطاقة فى بناء النظام الجديد، بعد نجاحها فى هدم النظام القديم.

لأننى ممن يتمثلون الحديث النبوى الذى يقول إن اليد العليا خير من اليد السفلى. فإن لدى تحفظا على فكرة أن تكون مصر طالبة لا مطلوبة. حيث ليس سرا أن الذى يطلب يظل دائما فى الموقف الأضعف. أدرى أن الاقتراض من المؤسسات الدولية أو من المصارف أمر معمول به فى كل مكان. لكن هناك فرقا بين أن تقترض بكرامة كما يفعل الجميع ثم تلتزم بالرد وأنت مرفوع الرأس وإذا عجزت عن الرد فلك أن تطلب مهلة للسداد، وبين أن تلتمس إسقاط الدين والإعفاء منه. ومثل ذلك الالتماس الذى قدمه وزير المالية المصرى فى زيارته الأخيرة إلى واشنطن يخصم من رصيد نظام ما بعد الثورة، وينال من صدقيته وكفاءته فى إدارة البلد.

(3)

إذا لم نستسلم لمنطق التعويل على الحكومة وتجاهل المجتمع فى مواجهة التحدى. فسنجد أن استحقاقات المواجهة تتوزع على الجانبين. وقد رجعت فيما خص الحكومة إلى عدد من الخبراء وأهل النظر الذين وجدت أن لديهم كلاما كثيرا فى الموضوع، وما أسجله هنا هو مجرد خلاصة وبعض العناوين التى يمكن الانطلاق منها إلى مناقشة موسعة. إذ تحدثت فى هذا الصدد إلى كل من: الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، والدكاترة والأساتذة حازم الببلاوى ومحمود عبدالفضيل وإبراهيم العيسوى وأشرف بدرالدين (الأخير كان عضوا بلجنة الخطة والمواطنة فى مجلس الشعب).

وأثار انتباهى أن الاتفاق منعقد بينهم حول ثلاثة منطلقات أساسية هى: ضرورة مصارحة الرأى العام بحقائق الوضع الاقتصادى ــ أهمية إجراء حوار مع أهل الاختصاص للاتفاق على حلول للأزمة ووضع جدول ترتب فيه الآجال والأولويات ــ عدم التردد فى إعلان سياسة للتقشف تبدأ فيها الحكومة بنفسها بحيث تراجع باب المصروفات لاستبعاد كل ما لا لزوم له، خصوصا ما تعلق بالوجاهات والبذخ والسفرات والحفلات والإسراف فى مكاتب التمثيل غير الدبلوماسى بالخارج. وحين يتحقق ذلك. وتصبح الحكومة قدوة يضرب بها المثل فى التقشف الذى يلمسه الناس، يكون لها بعد ذلك أن تطالبهم بشد الأحزمة والالتزام بذات النهج الذى ارتضته لنفسها.

أثار أولئك الخبراء نقطتين أخريين، الأولى تتعلق بضرورة الحد من سفه الواردات التى أصبحت قوائمها تضم سلعا استفزازية لا حصر لها، لا يعقل أن يكون لها مكان فى مجتمع يواجه أزمة. الثانية تتصل بإيرادات الصناديق الخاصة التى أنشأتها بعض الوزارات والمؤسسات العامة، وقدرت حصيلتها فى السنة المالية الأخيرة بنحو 21 مليار جنيه. وقد رأوا أنها تمثل رصيدا مهولا ينبغى أن يستثمر لصالح التنمية، ولا يترك نهبا للعابثين وأصحاب الأهواء فى كل قطاع. حيث لا رقيب ولا حسيب.

لابد أن يكون لأهل الاقتصاد كلام أكثر وربما أفضل مما ذكرت. ولذلك لن استطرد فيه لأن ما عندى بخصوص المجتمع يستحق أن نفكر فيه جيدا.

(4)

كنت قد وقعت على فتوى لإمام الحرمين عبدالملك الجوينى فى كتابه «غياث الأمم» قال فيها إن ولى الأمر إذا اعتزم أداء فريضة الحج، وأدى ذلك لتعطيل مصالح الخلق، فإن مراده يصبح «محرما على الحقيقة».

وحين قرأت أن حكومة الثورة بحاجة إلى سيولة تقدر بنحو 2 مليار دولار لتلبية احتياجات السنة المالية الحالية (حتى شهر يونيو المقبل)، ووجدت أن المصريين يدفعون المبلغ ذاته كل سنة تقريبا لأداء العمرة وفريضة الحج، توجهت بالسؤال التالى إلى الدكتور يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين: هل يجوز دعوة الراغبين فى أداء العمرة أو الحج إلى توجيه المبالغ التى خصصوها لهذا الغرض لصالح صندوق يدعم اقتصاد البلد فى الظروف الراهنة؟ وما مصير العمرة أو الحجة فى هذه الحالة؟ وهل يدخل دعم اقتصاد البلد ضمن مصارف الزكاة التى يتعين على المسلمين الوفاء بها؟
هاتفيا وجهت إليه السؤال.

وحين رد صغت إجابته وقرأتها عليه وأجازها. وكانت كالتالى: إذا حل ظرف طارئ ببلاد المسلمين عانت فيه من الشح فى الموارد المالية، فلولى الأمر أن يقيد العمرة لأنها نافلة وليست فرضا، ويسرى ذلك أيضا على حج التطوع الذى يعد نافلة بدوره (المسلم مكلف بحجة واحدة وما زاد على ذلك عد نافلة). والقيد هنا ينصب على الحالة التى يدفع فيها الراغب مالا للحج أو العمرة، ولا يشمل ما كان منها بالمجان. وإذا أودع المسلم حصته من المال فى هذه الحالة بعد أن عقد نيته على السفر، فإن العمرة أو الحجة تحسب له. أما توجيه الزكاة لصالح إنقاذ اقتصاد البلد المسلم أو حتى تنميته والوفاء بحقوق أهله فذلك مما يعد فى سبيل الله، الأمر الذى يدخل ضمن المصارف الشرعية المعتبرة.

هذه الفتوى المهمة إذا توافقت عليها المؤسسات الدينية ومجمع البحوث الإسلامية فى المقدمة منها، فإنها يمكن أن تشكل إسهاما إيجابيا فى مواجهة الأزمة، فضلا عن أنها تضع أيدينا على باب لاستثمار الطاقات الإيمانية لصالح المجتمع، يخرجنا من دوامة الشائعات والتلويحات الفجة التى تروج لتنفير الناس من القيم الدينية أو محاولة تشويهها وتوظيفها لتفكيك المجتمع والوقيعة بين مكوناته المختلفة.

خارج هذه الدائرة فليت خطابنا الإعلامى المشغول بالماضى وبتتبع تفاصيل حياة أركان النظام السابق فى معتقلهم بسجن طرة، يصرف بعض اهتمامه نحو هدفين هما تعبئة الرأى العام لصالح إعادة تشغيل المصانع بطاقتها الطبيعية، بعد أن تراجعت إنتاجيتها بنسبة تجاوزت 40٪، إلى جانب تراجع إنتاجية العمال أنفسهم، الأمر الذى بات يهدد بعض المصانع بالإغلاق. أما الأمر الثانى فهو ترشيد الاستهلاك الذى لم يعد يخضع لأى منطق فى بعض الحالات. يكفى أن تعلم مثلا أن مصر أكبر دولة مستوردة للقمح فى العالم (تستورد سنويا 6 ملايين طن بما يعادل 2 مليار دولار). وأن استهلاك المواطن المصرى هو الأعلى أيضا فى العالم، حيث تصل حصة الفرد إلى 130 كيلو جراما فى العام، فى حين أن المعدل فى الدول النامية يتراوح بين 60 و70 كيلو جراما.



وثمة كلام كثير حول تسريب الدقيق المدعوم إلى السوق السوداء التى لم تنجح محاولات القضاء عليها إلى الآن، وحول استخدام الخبز كعلف للماشية.

تلك مجرد نماذج لما ينبغى أن يستنفر لأجله المجتمع قبل أى تحرك خارجى. هذا إذا كنا جادين فى مواجهة التحدى ومطالبة الناس بربط الأحزمة والتقشف. وهى مسئولية ينبغى أن ينهض بها المجتمع المدنى، الذى نسيه مثقفوها الذين يصرون على استمرار إشغالنا بالحرب بين الدولة المدنية والدولة الدينية.