2011/04/24

والناس من خوف الذل في الذل.. والناس من خوف الفقر في الفقر (1) - الإمام محمد عبده



كلمات جمعت من درر المعاني صنوفا، فتقلدتها الآذان شنوفا، وعبارة حوت من الحكم ألوفا، قامت لها ألباب العرب صفوفا، فارتفعوا علي أمم الأنام ألوفا، ومقالة شفُّت عن خالص الحقيقة شفوفا، فكانت لبعض النفوس سفوفا شفيت به من أمراض الخوف والارتياع، فاعتزت مكانا، وأعتلت شأنا، وكانت سعيدة في الحال، وعند المآل، ولهذا فإنا نوردها مورد البيان، لتنجلي حقيقتها للأذهان، ولتفوز بنوال المأمول، فنقول:



إن في سبيل السعادة الإنسانية التي هي ثمرة وجود الإنسان ونتيجة خلقه، عقبات لابد من قطعها لمن يريد أن يكون سعيدا، ولا يخلو اقتحامها من صعوبة تلحق بالمعاني بعض الآلام الوقتية، وتصور تلك الآلام يقعد بالنفس عن العمل متي كان النظر قاصرا والهمة ساقطة. ولكن من وراء التقاعد أهوالا صعابا، ولكن من وراء التقاعد أهوالا صعابا، وآلاما شدادا تلزم من تلم به فيصير شقيا فقيد اللذة ما دامت الحياة. ومن ثم أوجبت الأنبياء والحكماء والعقلاء من كل أمة في كل عصر السعي في سبيل السعادة، من غير مبالاة بما يعرض فيه من المشقات، علما بأنها آلام وقتية عاقبتها الراحة الدائمة وغايتها النعيم المقيم، ونهوا عن الإهمال وإن كان فيه نوع من الراحة الآنية واللذة العرضية، لإصارته إلي الشقاء اللازم وبئس المصير.


غير أن كثيرا من الناس تعظم في وهمه صغار الأمور، وتقوي في مخيلته الأتعاب والمشقات، فيخلد إلي أرض الخمول والتخلي عن الأعمال، ظنا منه أن هذا خير له من الإقدام علي العمل المقرون ببعض التعب أو المستعقب لضرب من ضروب العناء، فهؤلاء الذين يصعب عليهم احتمال المشاق اللازمة لهذه الحياة الدنيا ويطلبون الراحة من كل ما يخيله الوهم شقاء فيقعدون عن الجد يحرمون السعادة.



فإذا خاف الإنسان تلك الآلام الوقتية، وهولها له الوهم، فأقعده الخوف عن الجد في تحصيل العزة تدركه الشقوة ويصير من الأذلاء، وما سبب هذا إلا خوف الذل والشقاء، ومن أجل ذلك تري ضعفاء النفوس الذين يعلمون من ذواتهم العجز عن بلوغ ما يأملون، ويتيقنون من همتهم القصور عن إدراك ما يبتغون تصور لهم الأوهام مخاوف في طريق الأعمال، وربما لم يكن لها حقيقة في عالم العيان، فينصاعون لحكم الوهم، وتحملهم الروعة علي ملازمة ملاذ الكساد، فيصيرون إلي شر ما كانوا منه يفرون. وكثيرا ما تحكي لنا التواريخ شقاوة الذين آثروا الإحجام علي الإقدام بسبب المضي مع تلك الأوهام التي غالبا ما تكون فاسدة لا حقيقة لها، بل كثيرا ما شهدنا أناسا حرموا النعيم وقاموا في العناء لذهابهم خلف ما يتوهمون من المخاوف والمشقات الآنية، ولو علموا أن ما يتوهمون مخاوفا ربما لا يلقون في سبيل المسعى، وأن سعيهم إنما هو فرار من أشرار لابد من وجودها، وأن ذلك المخوف ألم وقتي يسارع إلي الزوال عند بلوغ الغاية، لو علموا كل هذا لما وسعهم إلا الإقدام، ولكنهم جهلوا مقادير الأشياء، وخافوا ما لا ينبغي الخوف منه، فنالوا الذل والهوان وبئس المنال.



والسر في ذلك أن الوجود الإدراكي مؤسس علي ركنين عظيمين: أحدهما جل المنافع. والثاني إبعاد المضار في الطلب ومقاومة المكروه. ولنا شاهد علي ذلك أن الإنسان إذا تساهل في حقوقه فلم يحفظها خوفا من إهانة قوي أو معارضة عائق في سبيل الحفظ. فإن النفوس تستهين بشأنه فتمتد إليه الأطماع من كل الجهات تنتف حقوقه نتفة بعد نتفة إلي حد أن لا يكون فيه مطمع لطامع ولا منتف لناتف فيمكث مقصوص الجناح وهذا غاية الذل ونهاية الصغار. ومثل ذلك إذا تهاون بمصيبة ألمت به أو ضعف اعتراه فلم يطلب الأسباب تنقذه من الخطر الذي وقع فيه. فإنه لا يزال يعظم به المصاب وتتضاعف عليه النوازل حتى تهلكه بعد شقاء ربما كان لا يخطر بباله، وكان من السهل عليه أول الأمر أن يداوي داؤه بقليل من الإقدام يجعل بينه بين عاديات النقم حجابا منيعا فما أوقعه في الشقاء الدائم إلا توجسه من المخيفات الوهمية واستثقاله لمكابدة بعض المتاعب الوقتية.



أما إذا قاوم المغتال ورد ذوي الاغتصاب ولم يبال بما يجلبه عليه النزاع فإنه إما أن يغلب فيحفظ حقه ويكون قد أوقع بذلك الرعب في نفوس الأعداء فلا يتحلون حماه ولا ينالون منه بعد ذلك نيلا فيحيي محفوظ الحقوق مصون الواجبات، وإما أن تكون الغلبة عليه بعد تلك المشادة والمقاومة فلا تستهين به النفوس ولا توجه نحوه مطامعها بقوة، مثل ما إذا علمت فيه التساهل والانكماش وقلة المناكدة والمناقدة، وحينئذ يتأتي له أن يظفر بخصمه في ثانية الحال إذا اعتدي عليه، إذ لا يعدم من قوة الحق نصيرا، فهو إن فاز عاش سعيدا وإن غدرته الصدفة يوما نصره الحق أياما، وفي حين انغلابه لا يناله الذم والتشوير، إذ لم يبد منه في الحق الواجب شئ من التقصير، بل لا يكون ذلك واضعا من مقامه في النفوس وإن طال أمد الغلبة، فإن العقول تعرف مقداره، والأذهان تحفظ آثاره، فإذا عاش مسلوب الحقوق ظلما عاش والعيون تأخذه بالاحترام، وتنظر إليه نظر الإكرام، عادة كل شريف النفس في هذا الوجود الشاعر الدارك، علي أن العيش مع سلب الحق بعيد من شرفاء النفوس، فهم بين أن يعيشوا عظاما وأن يموتوا كراما، يخلد لهم الجهاد عن الحق ذكرا جميلا يتلوه اللسان ما بقي في عالم الوجود إنسان.



وأما ضعفاء النفوس الذي يردهم خوف المكروه الموهوم عن اغتلاب الرغائب والدفاع عن الواجب فهم إن عاشوا أذلاء، وهم إن ماتوا أدنياء، لا يذكرون إلا علي سبيل التحذير من التلون بصبغاتهم، والتنفير من قبيح صفاتهم، حيث خافوا من الذل فوقعوا فيه علي كيفية أشر مما كانوا يتوهمون.